| الثقافية
من الروايات القليلة التي كتبتها بصورة مختلفة، الرواية الأخيرة حارس المدينة الضائعة ، لقد تجمعت هذه الرواية وجمعت صورتها، على مهل طوال أكثر من عشر سنوات، تجمعت كأحداث وتفاصيل، عن شخص ما، لكن لحظة ميلادها ظلت مؤجلة بطريقة من الطرق، ولأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بانشغالي في انجاز كتابات أخرى، وبعضها يتعلق بالفكرة نفسها التي كانت تدور حولي، وأنا غير قادر على أن أجد لها جسدا مناسبا تسكنه.
وحينما لمعت فكرة الرواية، لمعت بطريقة مفاجئة فعلا، كنت أقود السيارة صباح أحد الأيام، وحين وصلت الى أعلى الطريق، حدقت أمامي في الانحدار الممتد طويلا، لم أبصر أي حركة، لم أبصر بشرا ولا عربة ولا عصفورا، كان المشهد فارغا من أي آثار تدل على وجود الحياة، لدرجة أنني فزعت، وخلت ان اللحظة أبدية,في هذه النقطة بالذات، سقطت بذرة الرواية، وتفتحت فيما بعد، وبعد تفكير طويل بها، بل بعد أن اصبحت هاجسا، رأيت فيها عودة لفكرة التجسيد التي ظهرت أول ما ظهرت في براري الحمّى وما بعدها من أعمال روائية كتبتها، وقد كنت ولم أزل حريصا على تكريسها، كي لا تكون مجرد تجربة عابرة، بل انها وبصورة من الصور تمتد لتلامس بعض العبارات التي وردت في الرواية الأولى وتتحدث عن عدم وجودنا في الأماكن التي نوجد فيها، وان كان الأمر يأتي هذه المرة من زاوية مغايرة، كرست لها الرواية بأكملها, ولعل من أكثر الجمل التي نسمعها تتردد في السنوات الطويلة الماضية، تلك التي تقول: لو كان هناك بشر، أو شعب، لما حدث ما حدث.
إنها جملة بسيطة، دفعتها الرواية الى أقصاها، ولكن هذه المرة، ثمة استناد كبير على الكوميديا السوداء المدفوعة باتجاه الرعب, وفي هذا المحيط الصامت الذي لا يبشر بحياة تركت ذلك الشخص الوحيد النموذج يجوب المدينة مسترجعا ماضيه وماضيها في يوم واحد.
عمان بلا سكان، وثمة رجل وحيد يجوبها.
ولا أخفي هنا أنني أُشغَل باستمرار بالاطار الغرائبي للرواية بشكل عام، ويبدو ان مطلع براري الحمى القديم، قد كان بمثابة سكة الحديد التي سارت عليها بقية الروايات, صحيح أن أشياء كثيرة تغيرت ومفاهيم وحساسيات جديدة تركت أثرها، وأصبح تأثير الفنون الأخرى مجتمعة أكثر وضوحا، إلا ان هذا الهاجس الروائي العام ولد هناك, كما لا أخفي هنا أنني كتبت الرواية وكنت أراها أمامي شريطا سينمائيا بالغ الوضوح، بل لعل شخصية البطل اللا بطل في هذا العمل تكون أكثر الشخصيات التي عملت على بنائها طبقة فوق طبقة، لدرجة التعاطف الشديد معه، لقد حاولت جاهدا وصادقا مثلا أن أتيح له فرصة أن يعيش لحظة حب كاملة، لكنه لم يساعدني في ذلك أبدا، حاولت أن أجد له تنفيعة من نوع ما لأخرجه من سنواته التسع والأربعين التي لم تمطر فيها خضرة امرأة فوق صحرائه، لكنني اكتشفت أنه كائن مليء بالخيبات، وأنني لن أستطيع أن أقدم له شيئا.
من المفارقات في هذه الرواية ان التأكيد على حضور الأسماء والتفاصيل الدقيقة لجغرافية المكان، هو دلالة لغياب كل ما يدل عليه الاسم، أو كأن وجود التفاصيل تأكيد لغياب الكل.
وأظن أن هذا التشبث بالأسماء، كان علامة من علامات الفراغ، حيث كل ما في المدينة غائب، لا من أجل الغياب فقط، بل اشارة الى التغييب ايضا كأنه لم يبق من الأشياء إلا أسماؤها.
ولعل هذا الحضور للتفاصيل يحمل في جوهره الرغبة في استعادة كل ذلك المفتقد، سواء أكان ذلك المفتقد بشرا أم شوارع أم أزقة أم أزمنة, ومن جهة أخرى كنت أحب ان يرى البشر ما حولهم، هم الذين لم يعودوا قادرين على رؤية انفسهم، ومع ان عنوان الرواية هو حارس المدينة الضائعة إلا ان الحقيقة الروائية فيها تقول: ان البشر هم الضائعون، وهم الذين يبحث عنهم الحارس , وفي اعتقادي ان المسألة جدلية هنا، فحين يضيع البشر، ما الذي يعنيه بقاء المدن؟ وحين يفتش الضائع عن الضائع، فإن ذلك يعني ضياعا شاملا.
في هذا العمل حدثت تقاطعات كثيرة مع المسرح والسينما والغناء والموسيقى والمسلسلات، لكن ذلك لم يكن بالطبع وليد حاجة املتها لحظة الكتابة فقط، بل هي جزء أساس من الاهتمامات الخاصة، أو لنقل انها جزء من خبرات الكاتب التي لابد منها، جزء من معرفته لما يدور حوله، فحين نكتب عن فترة تاريخية ما، قد نقوم بالعودة الى عدة مراجع للتثبت من بعض التواريخ والشخصيات، لكن حين نكتب أعمالا وتكون السينما والمسرح,, إلخ، جزءا اصيلا منها، فإن أي عودة الى فيلم ما، أو قطعة موسيقية ما لن تغني، لأن هذه الأعمال تحضر عبر زاوية الاحساس الطويل بها ومعايشتها؛ فنحن لا نستطيع مثلا ان نكتب سيناريو لفيلم سينمائي لمجرد أننا قرأنا كتابا حول فن كتابة السيناريو أو حضرنا فيلما, المسألة هنا معقدة ومركبة، ولولا ذلك الانفتاح على الفنون المختلفة لما كان بامكاني كتابة هذه الرواية بهذا الشكل وبهذه المضامين أبدا, هنا خبرات سنوات طويلة تسربت بهدوء لترسم تاريخ المدينة وتاريخ من فيها وكل ما شكلهم في السنوات الخمسين الماضية، من الفيلم الجميل حتى الهزيمة المريرة، ولا يتم ذلك إلا بما يقتضيه السياق العام للنص للأحداث، للشخصيات, وفي هذه الرواية كان بامكاني أن أوظف الخبرات وفهمي لها من وجهة نظر الشخصية الرئيسية, وما يصح هنا، قد لا يصح هناك، أي في عمل آخر، حيث يمكن أن تغدو الأمور كما لو أنها ملصقة بالعمل بتعسف اذا لم تكن جزءا من جوهره.
وقد كنت أرى منذ زمن ان الكاتب، اي كاتب، لا يستطيع ان يكتب بمعزل عن تلك الثورة الهائلة في المجالات الابداعية المرئية والمسموعة حولنا.
وأحيانا تبدو بعض الأعمال وكأنها كتبت في العصر العباسي، أو العصر الأموي، حيث لا نلحظ أي شيء من تأثيرات الفنون البصرية الحديثة التي تكتب حياتنا اليوم أكثر بكثير مما نكتبها نحن.
في الرواية هناك مسحة ما من روح تراثية لكنها ايضا غير مستفيدة مباشرة من التراث، وهي مسألة العناوين التي وردت في نهايات الفصول لا في بداياتها وكان هذا اجتهاد شخصي، لكنه اوحى بانتماء النص الى السرد القديم، رغم لغته الحديثة، وربما كنت اريد ان اقول فيما اقول، ان هذا التغييب الذي يمارس على البشر ويقبلون به طوال خمسين عاما تحول الى ما يشبه الشيء الثابت، او كما لو انه اضحى جزءا من التراث الخاص بنا، بحيث لا يمكنم وصفه الا على هذا النحو تراث مقلوب ، وحين وضعت العناوين في النهايات كنت اريد ان اسخر من الفصول ربما، من ابطالها الغائبين، حتى لو كانوا قادرين على الخروج من هذا الغياب المجسد في الرواية، لان حضورهم كما اشرت يجد كينونته في تغيبهم ماداموا قابلين بهذه الاوضاع التي تطحنهم.
لكن اكثر ما كان يخيفني فعلا هو القارىء، فالمسألة صعبة تماما، فكيف يمكن ان تقنع قارىء رواية في مدينة محددة هي عمان، وهو يسكنها، بأن سكانها اختفوا فعلا، دون ان يحس للحظة بأن الحكاية غير صحيحة؟ ولو كانت الرواية تتحدث عن مدينة خيالية فان ذلك ممكن، ولكن الخوف كان: هل سأتمكن من اقناع قارئي انه غير موجود، وانه غائب دون ان يدري، هذا هي المعضلة التي واجهتها على مدى 365 صفحة، لكن الجميل في الكتابة هو ان يكون هناك باستمرار التحدي الذي يلزم الكاتب بأن يعمل اكثر، وعبر ذلك يصل الى اقتراحات وتصورات جديدة عليه, ثم ان التحدي الآخر كان يتمثل في تعميم الحالة على مدن وعواصم عربية اخرى، رغم ان الحالة مغرقة في التفاصيل المحلية الدقيقة، بحيث يمكن لاي انسان ان يتتبع خطوات بطل الرواية من باب منزله تقريبا الى باب الصحيفة التي يعمل فيها مدققاً.
ولكن احب ان اقول هنا ان ما يفتنني دائما هو حجم المغامرة، فكلما زاد حجمها اقبلت عليها بفرح اكبر رغم الخوف الشديد.
الشيء الجديد تماما بالنسبة لي في هذه الرواية كان اللجوء الى السخرية لاول مرة، وقد فرضت ذلك ضرورات واقعية في اعتقادي، حيث اننا وصلنا كشعوب الى ذلك الحد الذي بلغنا فيه قمة مأساتنا، ودون ان نفكر للحظة ان هذاالوضع قابل للتغيير، واذا ما نظر الانسان حوله فسيكتشف ان الناس يجلسون في انتظار الاسوأ لانهم واثقون من حصوله، بمعنا ان هناك ركضا محموما مع المأساة ومجاراة فاضحة لها.
هذا الوضع لا يفهمه ولا يحاوره شيء مثل السخرية، لأننا وصلنا فعلا الى شر البلية وتجاوزناه، ومشهد الرواية الأخير والذي هو في الحقيقة المشهد الاول فيها ايضا، لأنها رواية دائرية، تجسيد لحالة اذعان عامة.
|
|
|
|
|