| مقـالات
ان فكرنا المعاصر أو أكثره على الأقل تلافيا للتعميم يتداول (العولمة) في ظل طوفان التساؤلات المتناقضة، وكل طائفة تجيب على التساؤل بوصفه السؤال الأوحد، وكل هذا اللغط يتم في غياب القدرة والمعلومة والتنسيق، والذين يواجهون (العولمة) بتصورات خاطئة يعمقون المأساة ويضاعفون الإشكاليات، وما أكثر الناس ولو حرصت بقادرين على اعداد أنفسهم وتحصينها بالعلم الشرعي اولا ثم بسائر العلوم والمعارف المؤدية في النهاية الى فهم المصير وتصور الآخر قبل المواجهة، او الكف عما يصعد الأزمة، لقد تعددت مفاهيم (العولمة) حتى صارت بعدد المتحدثين عنها، وجاء من يبحث في مشروعية الحديث عنها بهذا الحجم، والمؤكد انها صيرورة وتحول تاريخي أراد له الأقوياء الثبات والمشروعية، فحولوها من ممارسة عفوية، إلى صياغة واعية مشروعة، وهي بعد الصياغة وقبلها ليست طارئة ولامفتعلة انها مرحلة من مراحل الاستعمار والسيطرة، والأقوياء الذين ملكوا أزمة الأمور لن يفرطوا في رصيدهم، ولن يتحولوا عن مكرهم وتدبيرهم للتمكين لأنفسهم ولمصالحهم، وكيف يفرطون وهم يعلمون علم اليقين انهم يختلفون مع الأمة الاسلامية في أمور كثيرة، وان استسلام الأمة استسلام العاجز لا الراغب واستكانة المتربص لا المذعن، فالاسلام في نظرهم مارد في قمقم حتى لقد قال أحدهم: انتهى الصراع مع الشيوعية ليبدأ مع الاسلام، وهو لم ينته بعد, ان العولمة تغيير في العرض لا في الجوهر، ومن واجبنا ان نتصرف معها بهذه الرؤية، والأذكياء من يحاولون تفريغ محتواها ليملؤوا فراغاتها، ويوجهوا مسارها، ويتحكموا بأزمتها قدر المستطاع، وليس في تداولنا لها ولا في مواجهتنا لها شيء من ذلك, انها عند قوم ملاك طاهر، وعند آخرين شيطان أكبر وخيار ثانوي، وما من أحد من هؤلاء وأولئك يملك التصرف الحكيم والموقف الحضاري حين تكون ملاكا او حين تكون شيطانا.
وعيبنا الخلط بين التطلع و الممكن ، دون حساب للعوائق ودون تقدير للامكانيات، وليست لدينا مراكز معلومات ولا أجهزة رصد ولا آليات للجس والسبر, اننا في كثير من مواجهاتنا مغامرون لا نفكر بالعواقب, ان الامكانيات المذهلة للغرب والاكتشافات المثيرة في الآفاق وفي الأنفس والمطابخ السياسية والفكرية واحتلال الفضاء وحرب النجوم والشركات العملاقة المتعددة الجنسيات والانفجار المعرفي والطوفان الإعلامي ومراكز المعلومات تتطلب منا صياغة محكمة وأسلوبا ذكيا لمقاربة الأشياء، والمرحلة بكل ما تعج به من متناقضات بحاجة الى فكر تصالحي يتيح لنا الفرصة لأخذ النفس ومراجعة النفس وتقويم الذات وبدء العمل وفق مناهج وآليات مناسبة للمرحلة، ونواقص المثقف العربي في تداوله الفكري كثيرة، انه يفتقر الى المعلومات الصحيحة ذات المصدر الحيادي، وهذا النقص أوقعه في فخ التضليل، وكم من الصادقين الناصحين من ضرب كفا بكف، وندم على ما قدمت يداه، حين اكتشف انه رتب أوراقه على معلومات كاذبة وتوقعات مضللة وقضايا مزورة، وأقرب دليل على نقص المعلومات أو عدم مصداقيتها الحديث التفاؤلي عن مقدمات (العولمة) وبخاصة (الجات) التي تحولت الى منظمة تم التوقيع على بنودها في مراكش عام 1994م, وقد قرأت أحكامها ومبادئها ومعاييرها وحقوق الملكية الفكرية فيها والاجراءات والجزاءات ومنع المنازعات وتسويتها والترتيبات الانتقالية عبر كتب خاصة ودراسات منتدية وملفات متخصصة، فوجدت انها تميل كل الميل لصالح الآخر بحيث تركت مصالح الدول النامية معلقة، والمؤلم ان يكون أمر القبول في هذه الحالة من مفردات العولمة خيارا واحدا.
وهذا يذكرني بقول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بدُّ |
وقوله:
واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاءٌ تضوى به الأجسام |
ان الجانب الاقتصادي يكاد يكون خيارا حتميا، وهو الجانب الأهم والأخطر والمستتبع للجوانب الأخرى، وقد يكون الأهون ضررا على القيم الأخرى متى احسنا التصرف وقدمنا مشروعا اقتصاديا حضاريا في ظل امكانيات معرفية وظروف اقتصادية متينة، ومع ان البعض مكره على الفعل، فان في الأمر سعة، والناصحون يتنفسون من تحت الماء حتى يأتي امر الله، والعذر أننا ما بأيدينا صنعنا هذا الواقع المؤلم، ومع ذلك فان من واجبنا التحرف الناصح لتجاوزه وتحقيق الممكن، وها هي الدول الراصدة بوعي تلاحق الزمن لتقبل هذه الظروف وتتلاءم معها، وذلك بالخصخصة والنظام المؤسساتي، وتقليص ظل الدولة التقليدية وهي محاولات ناصحة راشدة نسأل الله لها التوفيق والسداد,وحين نرى اتساع بعض المشاهد العربية المتعددة المستويات والامكانيات لأكثر من مشروع غربي وأكثر من آلية حديثة وأكثر من منهج جديد، نتحفظ في الوقت ذاته على مشاريع مناهضة ومناقضة للثوابت، أخذ بعض مفكرينا بعصمها، في الوقت الذي يجدون فيه متسعا للعدول عنها، وكم هو الفرق بين فعل الإكراه وفعل الاختيار، وعتبنا على الذين يهربون باتجاه الآخر معرضين مصالح أمتهم وثوابتها للخطر وكان بإمكانهم التأمل واختيار أهون الضررين، والأجدى ألا نقع في التمييع والتبرير والتعذير ومقولة: ليس بالامكان أفضل مما كان، ان هناك حدودا يجب ألا نتعداها وحمى يجب ألا نحوم حولها، ولكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، لقد أخذ بعض الساسة والمفكرين العرب بمشاريع غربية مناقضة لما عرف من الدين بالضرورة، كالشيوعية والعلمانية الشاملة، مع امكان تحقيق المعاصرة والتحضر بما دون ذلك مما يحقق الاحتفاظ بالحد الأدنى من الاسلام على حد قسم الاعرابي الذي اقتصر على الفروض والواجبات فبشره الرسول بالجنة ان صدق، والمؤكد ان (العلمانية) الشاملة على سبيل المثال بوصفها مشروعا غربيا لا يمكن القبول بها في ظل المشروع الاسلامي, العلمانية منتج غربي عقلاني لا ديني، وهي ثمرة التنويريين الذين تخلصوا من سلطة الكنيسة، والأسلمة استلهام نصي يحكم العقل المتوازن مع النقل والمهتدي بنوره، ومن الخطورة بمكان ان نجعل لعقل الأمة مسارين: مسارا ماديا صرفا، وآخر نقليا صرفا، لا يحفظان التوازن والوسطية، والذين ينقمون على مشروع الأسلمة يخلطون بين المنهج والتطبيق، ويسهمون في تعويق التلاقي عند كلمة سواء، ولعجزنا عن صياغة حضارية للمواجهة، نجد ان من اشكاليات النوازل الواضحة والمتشابهة ادارة كؤوسها على مائدة ثنائية صنعت على أساس (نهضوي) أو (تنويري) أو (رجعي) أو (ظلامي) في مقابل (الاسلامي) على حد المتداول، وجاء التعامل بهذا المفهوم مكرسا فقد التوازن، فالمتماهون مع الآخر يدعون النهضوية والتنويرية، ويقول قائلهم: اما الاسلام والتخلف، أو الاستغراب والتقدم، و(السلفيون) يوصفون بالنكوص العقلي والارتداد الى التاريخ الرمزي، والحقيقة غائبة في هذا الجدل، وتتعمق الاشكالية حين لا يفرق المتجادلون بين الوجه الاستعماري للغرب، والامكانيات الايجابية عنده في العلم والتقنية وسائر الدساتير والمناهج والأنظمة، والخطأ الفادح حين ندخل لعبة المفاضلة بين أنظمة الحكم ومناهج التطبيق ثم نقف عند المسميات ولا نقوم الواقع والنتائج، ونعتمد في لعبة المفاضلة على المرجعية، ولعبة المفاضلة توحي بالمثلية وامكانية الخيارات، وهو ما لا يمكن القبول به، والمسميات لا مشاحة حولها, فلتكن ملكيا أو أميريا أو جمهوريا أو ما شئت من المسميات، ولكن لتحكم بما أنزل الله، والمرحلة المعاشة عصيبة ومربكة، ووضعها غير سوي وغير ملائم للتصرف المصيري، ومثل هذه الحالة العارضة تتطلب فعلا حضاريا يقوم على التصفية والتربية والتعليم، وبعد تصفية الأجواء نعمل على تنويع مستويات الخطاب, فخطاب دفع الظلم وازاحة التسلط يختلف عن خطاب التبادل المعرفي، وخطاب التصفية للسائد غير السوي والتربية للذات يختلف عن خطاب النقد للآخر بوصفه مصدرا للقيم المتحفظ عليها، والمشكلة ان الخطاب لكل هذه المستويات واحد لا يتغير، وفي ظل هذه الأوضاع والامكانيات غير المتكافئة يجب ان تكون التحولات مرحلية لا نهائية، اذ الامكانيات غير قادرة على الحسم النهائي، ومن الانصاف ان نشيد بتوفيق بعض المؤسسات العربية والمحلية في اعداد صيغة للحوار الاسلامي مع الآخر ومحاولة تجاوز بؤر التوتر ومناطق الخلاف العصية، لكن تلك الصيغ ظلت رسمية، ولم تكن أسوة للآخرين، والحوار المتكافىء قد يحقق بعض المكاسب للأمة العربية والاسلامية في ظل تلك الظروف العصيبة، وأحسب ان الاشكالية ليست في مواجهة الآخر، وانما هي في مواجهة الذات المتشرذمة المتماكرة مع نفسها وتصفية الخلافات الداخلية الحقيقية والوهمية الناجمة عن تباين الانتماءات وتعدد الخطابات, ولو نظرنا الى المشاهد الفكرية والسياسية والأدبية وهي تتداول المستجدات لأذهلنا التناقض والتناحر والجهل والادعاء وتحميل الأشياء ما لا تحتمل وتصفية السمعة دون استبانة لتصور المصفى ومعوله ومقاصده، وما على الخلي والشجي الا ان يقرآ التاريخ الفكري والنهضوي والتنويري والسياسي للأمة العربية وينظرا في المنجز الأدبي ليريا الصراع على أشده بين أدباء ومفكرين وسياسيين صُعِّدت فيه الخلافات في بعض الفترات الى صدام عسكري, ان الأمة الاسلامية بحاجة الى وحدة فكرية تحول دون نفاذ المفسدين في الأرض، فالعداوات الطائفية والمذهبية والفكرية من اخطر العداوات وأسرعها في افشال أي مشروع مشترك لمواجهة (العولمة)، والمؤلم ان خلل الوحدة الفكرية بدأ يمس الدولة الواحدة بحيث تحولت المشاهد الى منابر يعمق خطباء كل طائفة العداوة والبغضاء، وتقوم الخطابات على الافتراء وتزييف الحقائق، حتى لقد بلغ غسيل المخ عند بعض الطوائف الى حد اللاتوافق، ولم يكن العالم الاسلامي بدعا من الأمر، ويكفي ان ندلل بالانتحارات الجماعية التي أذهلت العالم، ونبهته الى تأثير الحركات الدينية والفكرية المنحرفة، وأثبتت ان هناك فراغات ذهنية وحياة فطرية قابلة للصياغة والتشكيل، ولا استبعد انفجار حروب اهلية منشؤها الخلل الفكري بين المنظومات الدينية، ويستبين الخلل في تباين المواقف بين النوازل والمصطلحات, فعلى المستوى العربي والمحلي نجد ان أخطر مصطلحين شائكين مضللين الحداثة و (العولمة) هذا اذا تجاوزنا العلمانية و الشيوعية والعصرية و التنويرية والعقلانية و الوضعية ، وسائر المذاهب التي اجتاحت العالم العربي واستنزفت طاقاته، ثم تحولت الى ركام يبعث على الاشمئزاز، و(العولمة) والحداثة و البنيوية لم نصل معها الى تحرير المصطلحات واستبانة المنطويات وغير واحد من المفكرين لا يرى مشروعية الجدل حول (العولمة) على وجه الخصوص، فضلا عن مشروعية المصطلح، والحق ان الداء العضال ناتج من أنفسنا، وأم المشاكل في حوار (العولمة) ان المتحاورين لا يصدرون من مرجعية واحدة ولا من مفهوم واحد، ان مفاهيمها بعدد المتحدثين عنها، وهذا سوف يؤدي الى انعدام الأرضية المشتركة وانعدام الهوامش المتاحة للتحرك فيها، واختلاف المرجعية يحول الحوار الى صدام، والتعايش الى تنافٍ، وهذا التناقض افضى الى اجتذاب المرجعيات والبحث في شأن الوثوقية والتقديس والمشروعية، مما أدى الى التوسع في فهم حرية الرأي وحرية الفكر وحرية التعبير ، حتى لقد عد البعض الايمان بمبدأ التقديس لبعض المرجعيات لونا من تقييد الحريات، مما نقل الصراع من الاختلاف في التأويل الى الاختلاف في مشروعية المؤول، ان المصيدة أو مثلث الرعب دخول نخبنا مضامير اللزز دون فهم دقيق ودون رؤية محددة لكثير من النوازل، فالعولمة على سبيل المثال منتج غربي له مقاصده وله مستوياته المفهومية بين الدول المنتجة، وله تفسيراته ومقتضياته المتباينة عند المتلقي, والتباين عند المنتجين وفهمه المتعدد عند المتلقين أعطاه تصورات عدة, فقد تكون (العولمة) من خلال تصور فئة خطرا على ثوابت الأمة عامة، ولكنها من خلال تصور آخر تعد ضرورة حضارية، تكون اقتصادية في رأي وأيديولوجية عند آخرين، وتكون خطرا على الدين والهوية عند جماعة أخرى، وفعلا دنيويا لا علاقة له بالدين عند آخرين، تكون مشروعا ثقافيا عند قوم، ومشروعا اجتماعيا عند آخرين وهكذا تتضارب الآراء حول نازلة تمس كل جوانب الحياة، وهذا الاختلاف يفتح ثنيات لمنتجي العولمة، ليضربوا بعضنا بسلاح البعض الآخر ويظلون متفرجين منتفعين، وازاء هذا التباين في المفاهيم والحدود يتحتم علينا التثبت واستبانة تصورها عند كل مفكر، ثم مواجهته رفضا او استحسانا, لقد قبل بها قوم في ضوء انحراف فكري، وقبل بها آخرون في ضوء فهم خاطىء أو تصور مغاير، وتردد في قبولها قوم آخرون لعدم تحرر مفهومها, والمواجهة يجب ان تكون مرتبطة بدوافع الموقف لا بالموقف ذاته، ومع الاختلاف يجب ألا نتعادى، واذا كان المنتجون والمستفيدون من العولمة يختلفون، فإن المستقبلين والمتضررين أحق بمشروعية الاختلاف، والذين رفضوها من مثاليي الشعوب المنتجة لها يرونها تسلطا قادحا بالعدالة والحرية والديمقراطية، ولونا من ألوان الظلم المنافي للمبادىء المعلنة.
ومما يعمق الاشكالية في أوساطنا الموصومة بالتقليد ان القراءة أي قراءة لا تكون بريئة، والنص أي نص لا يكون بكرا، فالنص والقراءة لا ينشآن من درجة الصفر وطبعي والحالة تلك ان نحمل المصطلحات ما لا تحتمل ونحدد قيمتها من خلال مواقف مسبقة الاعداد، والمرحلة المعاشة بكل تعقيداتها بحاجة الى تخلية الفكر من سوابق التصنيع ونمطية الانطباع، لكي تأخذ سمتها الحضارية, وقدر الأمة المأزوم مواجهتها لكم هائل من التحديات على كل المستويات، وهي تحديات مدججة بسلاح المعرفة وقوة الآلة مدعومة بالمؤسسات ومراكز المعلومات والمطابخ السياسية وإحكام القبضة على كل شيء، مع عدم التوازن في الامكانيات، وهذا يؤدي الى الانهيار وتدمير الفكر وضياع الرؤيا وتحكم اللامعقول واستفحال التشتت والعنف وطول الجدل وعقمه، والتحول من صناعة التاريخ الى صناعة الأيديولوجيات كما يقول ماركس في نقده للألمان زمن تخلفهم، وهو المشاهد في كثير من المواقع، إننا نصنع الأيديولوجيا ولا نضع التاريخ، وكأننا نعيد فترة السوفسطائيين في الفلسفة اليونانية الذين يجادلون من أجل الجدل, والمفكر الواعي لواقعه المدرك لامكانياته المحترم لاجراءات التوقيت والتقدير المعتز بعقيدته يتحامى الدخول في حلبة الصراع دون آلية مناسبة وامكانية متكافئة وأخلاقيات عالية تجادل بالحسنى وتغلب جانب الوسطية والاعتدال, وخطر (العولمة) وهو خطر كل النوازل منتج وضعنا الرديء وأسلوب تعاملنا الفج مع المستجدات، والأكثرون في مشاهدنا: اما جهلة ينكرون ما يجهلون على حد: من جهل شيئا انكره أو مداهنون يتهالكون على الطواري كالفراش، وكلتا الطائفتين ضد الأهل, فالجاهل قد يحرم ما أحل الله، والمداهن يغش أهله وعشيرته، وخطرهما أشد من تبعات النوازل، والأمة التي تروم كريم الحياة بحاجة الى فئة عاملة عالمة واعية مخلصة تستحضر القيم وتحترم الثوابت، ولا يأتي ذلك الا بجهد مؤسساتي يتوفر على المعلومة والتخصص والتنوع والوقت والجهد الكافيين لانضاج الأحكام وتحديد المواقف ومنع التنازع, وفي عالمنا العربي والاسلامي والمحلي بعض هذا الطموح فالمجمع الفقهي وهيئة كبار العلماء ، وادارات البحوث والافتاء ، والروابط الاسلامية ، والمنظمات و مراكز البحث العلمي في الجامعات بوادر خير ومبعث اطمئنان، ولكن الدهماء لا يعولون عليها، ولا يرقبون نتائج بحوثها ولا يردون المتنازع عليه الى اهل الذكر، ومن ثم تعددت الآراء، وتشعبت التصورات، وتعمق الخلاف، وفهمت الحرية على غير مراد الحق سبحانه، وسمعنا من يقول: نحن رجال وهم رجال، ورأينا من يتصور مشروعية الاجتهاد المطلق دون امكانيات ودون حاجة, ان حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الرأي حقوق مشروعة ومكفولة اسلاميا، ولكنها بحاجة الى ضوابط وشروط ومؤهلات، ومن تصور الحرية بدون ضوابطها وشروطها ومؤهلاتها وامكانياتها فقد أفسد الحياة, وإسكات الرعاع والفضوليين وقمع الانحراف والأخذ على يد السفهاء من اهم مقومات الحرية المنضبطة, الحرية جمال، والجمال تناسق وتناغم وانسجام، ولا جمال ولا حرية مع الفوضى والعبث والتسلط واللامعقول، ولأن الحياة في النهاية عقد اجتماعي يحقق الحياة السوية عبر التبادلات والتنازلات، فإن الخروج عليه فتنة، والفتنة أشد من القتل، ولأن عقدنا الاجتماعي صياغة ربانية فلا خيرة لنا في قبول متطلباته ومقتضياته ومقاصده، وعند النوازل او المبادرات لابد من عرض ذلك على نصنا المحكم وقواعدنا الكلية واجتهادنا الجماعي المؤسساتي المستنير بنور السموات والأرض الموقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية, و (العولمة) من تلك النوازل العصية المراوغة بتعدد احتمالاتها وتصوراتها وهي بهذا تحد لقدراتنا وكفاءتنا، فهل نستطيع ان نستقبلها بأسلوب حضاري، ننعش بها امكانياتنا ونبادل من خلالها فعلنا دون الاخلال بشيء من ثوابتنا ودون تشويه لخصوصيتنا ودون ذوبان يلغي حضورنا؟
ان القبول لا يقتضي نفي الذات ولا جلدها، والرفض لا يقتضي مصادرة حق الآخر ونفيه، وهذان التصوران القائمان عند الأكثرين لا يحققان شيئا من التعامل الايجابي، (العولمة) قادمة، تلك حقيقة لا ينكرها الا جاهل، ولكن لن تكون ذات مستوى واحد ولا فعل واحد، والمتلقي هو الذي يحدد أسلوب المواجهة والتعامل، والغرب الذي ما فتىء يسك المصطلحات خليط من خير وشر، واذا أصاب الحكمة فيما يأتي فهي ضالتنا لا نسأل عن مصدرها، فالشريعة والعقيدة متممات لمكارم الأخلاق، وحلف الفضول منتج جاهلي مجده الرسول صلى الله عليه وسلم واستعد لحضور مثله لو دعي الى ذلك, والأمة الاسلامية تعيش عصر الاقتصاد العالمي والقرية الكونية وشبكة المعلومات والتكامل، ومن ثم فإن الانكفاء والاكتفاء الذاتي لم يعودا أمرا ممكنا، وتبادل المنافع والمصالح سنة كونية والناس في النهاية خدم لبعضهم، والدخول في حلبة الصراع الاقتصادي بامكانيات هزيلة وبفوضوية مستحكمة مؤذن باضمحلالنا، والقبول غير المشروط بكل مفردات المشروع العالمي أخلاقيا وفكريا واجتماعيا وعقديا عملية انتحارية وجريمة لا تغتفر.
ان علينا ان نقبل بما لابد منه وندفع بالتي هي أحسن ما لا يتفق مع سياقنا الحضاري، والغرب الذي أنتج العولمة يعاني من مشاكل متعددة ومفكروه يحذرونه وينذرونه بين الحين والآخر، والتفوق والسيطرة ليسا رهانا أزالياً، والتعويل على آراء المنبهرين به قد يلغي امكانياتنا ويقلل فرص الكسب، لقد اهتزت ثقة المفكرين الغربيين بمشاريع الساسة وجاءت الصيحات مؤشر خوف حقيقي، وكان من بين الساسة والمفكرين:
جيمس باترسون، وبيتركيم في كتابهما يوم أن عرفت أمريكا بالحقيقة .
أندرو شابيرو في كتابه نحن القوة الأولى: أين تقف أمريكا وأين تسقط في النظام العالمي الجديد .
ربغنيو بريجنسكي في كتابه الفوضى .
على انه يجب ألا نعول على الصدف والتنبؤات ولا ننتظر الانهيارات لنفرغ للغنائم وفي المقابل يجب ألا نيأس ونقنط ونستسلم ايمانا منا بنهاية التاريخ.
|
|
|
|
|