| الاخيــرة
هذه الخواطر التأملية أو الذكريات والأحاسيس التي نامت ردحا من الزمن في ذاكرة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري والتي سكبها -أخيرا- على الورق هي في الحقيقة نمط جديد في كتابة السيرة الذاتية,, من حيث طريقة الطرح، وأسلوب الدخول الى عرض الموقف الذي عاشه، أو عايشه أبو عبدالمحسن، وأراد بعرضه في هذا الكتاب ان يكون ذا دلالة موحية عن نمط الحياة التي عاشها المؤلف في مسقط رأسه، ومرتع صباه، وعنفوان شبابه، قبل أن تجره عوارض العصر وتغير ملامح الحياة من حال الى حال, وهي أنماط حياة جيل الأشياخ وفيها العظات والعبر للجيل الجديد,.
وكثيرا ما يحمل الشيخ عبدالعزيز خاطراته فوق ما تحتمل,, يتمثل ذلك في جلد الذات حتى وان كان المراد من ذلك الاسقاط على ما يدور حوله أو يلوب في ذهنه من طبائع البشر التي يأتي بعضها غير سوي ولا مقبول، ولا يمكن ان تعصم منها حياة انسان على هذا الكوكب الارضي مهما كانت مثاليته او رقيه الحضاري، ولا يستثنى من ذلك الا رسل الله وأنبياؤه.
يتحدث الكاتب في خاطرته ذهن تتلاعب به رياح العصر عن رحيله من المجمعة الى الرياض,, رحلة ليست مؤقتة للعودة منها الى حيث عاش وناش,, بل هي الرحلة التي غيرت مجرى حياة الشيخ حيث تولى المسؤولية الأهم والأكثر نصبا مما كان يزاول قبلا في قريته.
اقرؤوا معي قوله: منذ يوم الرحيل البعيد عني الآن وانا في جدل وصراع داخلي أبليت معه أكثر من خمسين عاما ظنا مني اني دخلت مدخلا من مداخل العصر، اخذني الوهم الى شارعه العام، أمشي وسط عالم لا كتاب لي معه فأقرؤه، ولا أملك فيه شبرا واحدا آمن فيه وابني لي خيمة استريح فيها، واستضيف ذكريات كانت بعيدة تركتها يوم الرحيل في قلب الصحراء فيما بين رمال الدهناء وجبال اليمامة .
لاشك ان أبا عبدالله التويجري مغرم الى حد العشق الصوفي بذكرياته في المجمعة وما حولها من بلدان ووديان وجبال ورمال، وهو غير ملوم في هذا العشق، فقد شخص ابن الرومي هذا الوله والحب الآسر في قوله:
وحبب أوطان الرجال اليهمو مآرب قضاها الشباب هنالكا اذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا |
وما على الكاتب، وهو يخشى بانتقاله من قريته كما يصفها، الى العالم الأوسع ان تضيع منه ذكريات الصبا والشباب، وبخاصة اذا ما أخذته مسؤولياته الوظيفية الجديدة وانتزعته عما تختزنه ذاكرته الطرية التي لم تشخ بعد.
ويستشهد في هذه الخاطرة بأحد خلفاء بني أمية في الاندلس الملك الناصر الذي قال: عشت ستين عاما أحكم فأحصيت مسراتي في هذه الأعوام فاذا هي لا تتجاوز ستة أيام ويريد التويجري ان يوحي بأنه ليس بعيدا عن هذه الحال حيث يستطرد في خاطرته تعليقا على مقولة الخليفة الأموي قائلا: لي تجربة نسبية فيما بين يومي الأول الذي كنت فيه أفرح اذا ملكت عشرا من الضأن، أو بعيرا أو بعيرين، أو نخلة أو نخلتين، وبين يومي هذا الذي بنى لي فيه النفط قصرا، وأدخل فيه من الأشياء ما انساني نومي على حصير من سعف النخل، أو على كثبان من رمال الدهناء، وألهاني عن الخيمة والصحراء، والربيع ونجوم السماء، وشم نسيم الصبا، أنساني أشياء كثيرة وبسيطة، أنساني فرحي وسعادتي ص 34.
لقد صدق أبو عبدالمحسن: فوالله لا المال الوفير ولا المركز الكبير بجالب أياً منهما أو كلاهما السعادة وراحة البال,, اللهم الا لمتحجر العاطفة، أو ترابي الشعور,, أو لمن يكون ماله ومركزه طريقا لا حبا لخير دينه ومجتمعه وأمته,, وقليل ماهم,,!
ويعرج الشيخ الوقور في خاطرته (8) أتراها نسيت تلك الأحلام؟ على بلدة صغيرة جدا وقميئة جدا هي بلدة أشي بضم الهمزة وفتح الشين، تقع في وادي المشقر غرب المجمعة، ولا حيلة لعاشق أرض تحمل بعض احلامه وذكرياته الغنية والخصبة بكل طموحات وعنفوان الشباب ان يتغنى بذكرياته فيها حتى ولو كانت بهذا الحجم الصغير انه يناجي نفسه من خلالها ومتسائلا عما أحدثته الحياة المعاصرة من تغيرات جوهرية في الزمان والمكان أفي عالمنا المعاصر وتد واحد لم تهزه رياح العصر، وتوغل في أسراره وان كان جبل رضوى؟ وما لم توغل فيه الآن فهي آتية اليه بسلطان الله .
من ذكرياته في المجمعة وأشي وجبال اليمامة ورمال الدهناء ,, الخ يتذكر ويقارن ما صار اليه,, تبعا لتحولات العصر وطفرة النفط .
انها ذكريات بين عمر وحياة رتيبة الى عمر خصيب وحياة متحركة ترينا كيف هي تقلبات الزمان، وان لا خيار للانسان الا مجايلتها ومسايرتها كواقع لا مفر منه.
هامش على أشي
توقعت من الشيخ عبدالعزيز التويجري حينما ذكر في خاطرته 8 عن قرية أشي ان يذكر بعض ما ورد فيها من الشعر العربي القديم والذي يشفع لصغرها وقماءتها وقدمها التاريخي ويجعل قيمتها التاريخية في الشعر تفوق مرات ومرات حجمها الحالي المكون من عدة بييتات ونخيلات محشورة بين فكي الجبل ,, ولكن الشيخ لم يفعل كعادته الجميلة في الاستشهاد أحيانا بشيء من الشعر العاطفي,.
ونظرا الى ان الزمان قد سحب عليها أردان طفولته وصباه وكهولته، مما جعلها تدخل وثائق التاريخ، وديوان العرب الشعر معجم البلدان لياقوت الحموي، فقد أحببت ان أورد هنا بعض أبيات من قصيدة زياد بن منقذ العدوي وهو من أشي وقد سافر الى صنعاء واستوطنها ولكنه استوبأها، فكتب هذه القصيدة يتحرق فيها شوقا الى بلدته، ويصفها بأجمل الأوصاف عكس ما وصفتها به انا من خلال رؤيتي لها هذه الأيام يقول:
متى أمر على الشقراني معتسفا خل النقا بأمون لحمها زيم لا حبذا أنت يا صنعاء من بلد ولا شعوب هوى مني ولا نقم وحبذا حين تمسي الريح باردة وادي أشي وفتيان به هضم مخدمون كرام في مجالسهم وفي الرحال اذا صحبتهم خدم ليست عليهم اذا يفدون أردية الاجياد قسي النبع واللجم لم ألق بعدهم قوما فأخبرهم الا يزيدهم حبا الي هم ياليت شعري متى اغدو تعارضني جرداء سابحة أم سابح قدم نحو الأميلح أو سمنان مبتكرا في فتية فيهم المرار والحكم (1) |
وهذه الأبيات من قصيدة طويلة ذكر الشاعر الشقراء وهو يقصد شقراء المدينة المعروفة الآن وخل النقا طريق في النفود بين الوشم وسدير الأميلح هو بلدة مليح بين الغاط والزلفي وسمنان قرية من قرى الزلفي والبيت الأول الذي ذكر فيه الشقراء وخل النقا، ليس في معجم البلدان، ولكني أوردته من ذاكرتي خاصة انني مشيت هذا الطريق أيام كنت موجها في المعاهد العلمية عام 1378ه والله أعلم.
(1)معجم البلدان ج 3 ص 427.
|
|
|
|
|