العاتك: الكريم، والخالص من الألوان والأشياء، قال في المعجم الوسيط: يقال: أحمرُ عاتكٌ: أي شديد الحمرة.
والعاتكة: مؤنث العاتك،والمرأة التي تكثر من الطيب حتى تحمرّ بشرتُها، جمعها: عواتك, قلت: ويمكن أن تدخل فيه التطريات بالأصباغ الحديثة.
وشاعرتنا المشؤومة هي: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيل القرشية العَدَوّية، توفيت حوالي سنة أربعين للهجرة بالمدينة المنورة، وهي من حسان المهاجرات وصوالحهن، والمصادفات السيئة وحدها هي التي سلكتها ضمن أفراد هذا الميدان، والأمر كله بيد الله، إليه المرجع وإليه المآل.
تزوجت أول أمرها من عبدالله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، وكانت امرأة ذات جمال وكمال وتمام في عقلها وجزالة منظرها، قالوا الأغاني 18/8 : فغلبته على رأيه، وملكت عليه عقله وقلبه حتى شغلته عن أمور دينه ودنياه, فقال له والده أبو بكر الصديق: قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة، وألهتك عن عبادتك, طلقها يا عبدالله! فطلقها تطليقة، وتحولت إلى ناحية الدار، فبينا أبو بكر يصلي على سطح له في الليل، إذ سمعه يقول:
أعاتك لا أنساكِ ما ذرَّ تارق
وما ناح حُمريُ الحمام المطوَّقُ
أعاتكَ، قلبي كل يوم وليلة
لديك، بما تُخفي النفوسُ معلَّق
لها خلُق جَزل، ورأيٌ، ومنطق،
وخَلقٌ مصون في حياء، ومَصدَق
فلم أرَ مثلي طلّق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء تُطلَّق
فرقد له أبو بكر وأمره بمراجعتها، فخرج إليها يجري إلى مؤخر الدار قائلاً:
أعاتكَ قد طلِّقت في غير ريبةٍ
وروجعت للأمر الذي هو كائن
كذلك أمرُ الله غاد ورائحُ
على الناس، فيه أُلفة وتبايُن
وما زال قلبي للتفرق طائراً
وقلبي لما قد قرَّبَ اللهُ: ساكن
ليَهنِك أني لا أرى فيك سخطةً
وأنك قد تمت عليك المحاسن
فإنك ممن زيّن اللهُ وجهه
وليس لوجهٍ زيّن اللهُ ثائن
وأعطاها حديقة على ألا تتزوج أحداً من بعده، فلما مات من السهم الذي أصابه في غزوة الطائف رثته بقولها:
فلله عيناَ مَن رأى مثله فتى
أكرَّ وأحمىَ في الهياج، وأصبرا
إذا شُرعت فيه الأسنةُ خاضها
إلى الموت، حتى يترك الرمحَ أحمرا
فأقسمت لا تنفك عيني سخينة
عليك، ولا ينفك جلدي أغبرا
مدى الدهر ما غنت حمامة أيكة
وما طرد الليل الصباح المنوِّرا
فخطبها عمر بن الخطاب من بعده، فوافقت، ولكنها تحرّجت من الحديقة ووعدها لعبدالله، فقال لها استفتي فاستفتت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لها: ردي الحديقة على أهله وتزوجي فلما قتل عمر قالت ترثيه:
عين جودي بعبرة ونحيب
لا تعلِّي، على الامام النجيب
فجعتنا المنون بالفارس المع
لم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الله، والمعين على الده
ر غياث المنتاب والمحروب
قل لأهل الضراء والبؤس: موتوا
قد سقته المنون كأس شعوب
التلبيب: الأخذ بالتلابيب, أو من قولهم: لببه بالسيف، أي وضعه على عنقه، شعوب : الموت .
كما رثته بقولها:
منع الرقاد، فعاد عيني عيد
مما تضمن قلبي المعمود
يا ليلة حبست علي نجومها
فسهرتها والشامتون هجود
قد كان يسهرني حذارك مرة
فاليوم حق لعيني التسهيد
أبكي أمير المؤمنين، ودونه
للزائرين صفائح وصعيد
فلما انقضت عدتها خطبها الزبير بن العوام فتزوجها، فلما قتل الزبير في توابع موقعة الجمل بوادي السباع رثته أيضا فقالت:
غدرا بن جُرموز بفارس بُهمة
يوم اللقاء، وكان غير معرًّدِ
يا عمرو لو نبهته لوجدته
لا طائشا رعِشِ اللسان ولا اليدِ
هبلتك أمك، ان قتلت لمسلما
حلت عليك عقوبة المتعمد
فلما انقضت عدتها منه تزوجها الحسين بن علي، فكانت أول من رفع خده من التراب في كربلاء يوم قتل، وقالت ترثيه أيضا:
وحسينا، فلا نسيت حسينا
أقعدته أسنة الأعداء
غادروه بكربلاء صريعا
جادت المزن في ذكرى كربلاء
أقصدته: قتلته الذرى: الغناء، والنواحي , قالوا: فكان بعد ذلك عبدالله بن عمر يقول: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة, أما هي فقد رفضت الأزواج لأنها كما قالت: ما كنت لاتخذ هماً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واذا كان ظاهر هذه القصة التي تناقلها الرواة والمؤرخون يشير الى ان النفوس بدأت تنكمش عن شاعرتنا لما حصل لها في سلسلة حياتها من فقدها للأزواج، فانها تدل من وجه آخر على شدة صبرها، وقدرتها على مواصلة الحياة، فان ما مرت به من نكبات يعد بحق من أكبر صور الابتلاء التي يتعرض لها المؤمن، ويثاب عليها ان صبر، وبتصفح سريع لشعرها في موت أزواجها نستطيع ان نطل على بركان الحزن المتأجج بداخلها، اذ كانت رضي الله عنها ما تكاد تبتسم، ولا تكاد تخالط قلبها فرحة، فسرعان ما تهاجمها الدموع وتغزوها الأحزان.