| مقـالات
كان الوعد بالعود إلى ديوان سيف العشق من المفترض أن تقف عقبة في سبيله مشاغل العمل المكثف مع إطلالة الصيف عندنا في عسير، وخدمة مئات الألوف من ضيوفنا الاعزاء القادمين إلى المنطقة للاصطياف فالكل هنا أهالي وحكوميين جنود في كتيبة العمل التي يقودها خالد الفيصل,, ذلك الأمير الحالم الذي سرعان ما تتحول أحلامه على أيدي الجماهير واقعاً مشرقاً ومشرفاً.
على كل حال إذا كنت أعود اليوم إلى مساعد الرشيدي فالفضل ليس لهمة الباحث المتجول في داخلي عن الفن الاصيل بقدر ما هو لهمة الشاعر المجدد وابداعه الذي استطاع ان يحدث الثغرة في جدار المشغولية والمسؤولية الصلد، لأطل منها في سويعات الاسترواح على حدائقه المعلقة بأستار العشق والوله تنبذ الجوى، وتنشد الوفاء بعهد الهوى.
ومنذ ان تصافح العنوان سوف تدرك ان قصائد الديوان تصب في نهر وجداني يشتعل بالشجن,, بآهات العشاق وهم يتفارقون,, وبالحياة تعود إليهم إذ يلتقون,, والشاعر يضعنا أمام إشكالية ربما لا يكون هو إزاءها وحده،
بين فرحة لقاك وهم فرقاك لا تذكرت جرح ولا نسيتك عين تشربك شوف وعين تظماك لا ذبحني ظماك ولا رويتك |
ولربما شاقني من الشوق ما شاقه، فعزمت من جديد على استقراء ديوانه، مهمشا التعليق على صفحاته، حتى إذا انتهيت وجدتني في حيرة من أمري,, ماذا اكتب لكم وماذا أبقي، فكل البضاعة نافقه، وحصيلة الاختيار بعد كل ضنى تعوزها لا مقالة أو اثنتان بل مقالات عدة,, ولما كنت مجرد (قارئ) فليس من حقي أن أسود صفحات النقد بخواطري، فأشق بها على القارىء، واستلب من ذوي الاختصاص حقا، ولكن مالا يدرك جله لا يترك كله.
ماذا يمكن ان افصح لكم عنه في هذه العجالة إلا ان اقدم لكم مساعد الرشيدي الشاعر الغنائي (الراقص) إذ تتحول كلمته الى عود وناي وخيل وطبل, وزمر ورقص.
جيت يا (أبها) معاليقي دشايش جيت شوق وعصافير وحمام إن نعستي غدت روحي فرايش وان ضحكتي روت روحي هيام وان لبستي خلاخيل وغوايش دوك شعري سوارك والزمام |
زقزقة العصفور,, وهديل الحمام,, ووسوسة الأصفر الرنان,, جوقة موسيقية تعزف لحنا شجياً نجياً، وفي الشوق المشحون,, وهدهدة النعسان في حنايا الروح، تتهادى موسيقى (تصويرية) إلى المشهد الراقص الراقي.
ولشاعرنا بالجواهر علاقة ودُربة,, فمفردات الزبرجد، واللولي، والماس، والذهب، والدر,, تزين شعره كما تزين أجياد الغواني الملاح,.
ليتها تدري وعقد الماس لويدري عذرها اشهد ان الجمره اللي في الحشا مني وفيه |
كما ان الشاعر بالخيل خبير,, وله منها نصيب أثير.
مهرتي شقرا نحيلة مثل بنت لعوب لا جلدها مسرف الشوق زاد هبالها |
وإذا كنت أيها القارئ تعرف شاعرنا معرفة شخصية,, وتلحظ ذلك النحول البادي عليه,, فادع له أن يُشفى أو لا يشفى، من (عيون) تشرب في غير ارتواء، وتقتات بلا شبع على نحول المسكين، وهو هائم كصاحبنا (المجنون) يتساءل.
يوم تضحك لي عيونك,, عيونك ويش تبي؟ كم لها تشرب نحولي ولا هي راوية |
أما أن الشاعر مساعد الرشيدي مجدد فحدث ولا حرج
شمسنا في جرهد العز ممتده ما خلق ربي ظلام يطفينا |
فالشطر الثاني ثورة غير مسبوقة حتى ساعته في التعبير عن المألوف حول الاعتزاز بالوطن,, وهو يخترع لنا من الماء ورقا غير قابل للكتابة بطبيعة الحال فقديما قالوا: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، والتعليم في الكبر كالنقش على الماء، وذلك في معرض الحث على الشيء في أوله وأوانه، فالامر في غير زمانه أو مكانه صعب إن لم يكن ضربا من المستحيل,, على ضوء ذلك يمكن أن نشفق على الشاعر التائه:
اشوفك هناك قدامي,, ولا أدلك صعب الكتابة ليا صار الورق ميه |
وفي رحلة التيه,, يصور لنا كيف وضعت العربة امام الحصان,, فعادة الاقدار انها تتخالف,, في وقت الحاجة ان تتآلف.
أدور أنا وأنت مثل السبت والجمعة يا قربنا والصحيح أنا بعيديني |
فمن الطبيعي ان يلحق الجمعة بالسبت لكن بين السبت والجمعة مشوار يطول.
والشاعر يحكي بنا بريشة الابداع وفرشاة لا تخطئ الألوان ما رصدته نظرات خاطفات إلى ذلك الجبين الوضاء كلما اهتز غطاء الوجه أبرق سناه وأضاءت شهبهه عتمة الغيمة المثقلة بالخير وبالجمال.
لبى جبينه ليا ارتج الغطا كنه برق يصب الرفيف بكبد ديمومه |
ولعل هذا يعيدنا إلى قول الشاعر المحروم رائد حركة التجديد في الشعر النبطي الامير عبدالله الفيصل.
نطحني على الكدلك حبيبي بعرض السوق وعرّض بخد يجرح اللمس منديله ابو وجنة حمرا غشاها الهدب من فوق تكشف سناها من ورا طرقة الشيله |
والرشيدي يجمع بين حرارة الشمس وقوتها وبين وضاءة النجم ورومانسيته في فذلكة عجيبة.
ما اقول شفته وشفت البيض يتلنه اقول شفته وشفت الشمس منجومة |
وهو لا يقنع بما قنع به الأولون حين وصفوا سواد الشعر بالليل أما هو فيُسخر الظلام حتى يروع به الليل فيفقد من الرعب نجومه ويصير حالكا حلكة سواد شعر الحبيب.
ما أقول كن الجديل الليل لكنه ليل خرعه الظلام وضيع نجومه |
والشاعر في هذا التيه لا يطالب بالبراءة,, بل بتخفيف الحكم يتشهى ان تكون له عينا ضرير خير من ذاك الظلام الضرير
أطوى الظلما وعيت تنطوى واشتهيت الشوف بعيون الضرير |
ويستطرد الصياد الفريسة واصفا حاله
مثل طير طاح بيدين بدوي يلعن الطيحه ولا يقوى المطير |
ولما انهد حيله,, وتقطعت أحباله وأوصاله,, جاء ينشد الوصل في الرمق الأخير.
جيتك بقايا حي كل أكثره مات وصلت لك بآخر رمق من حياتي |
فهل يتحقق الوصل قبل ان يفوت الأوان؟! أم يظل المسكين يعزف على الناي الحزين أعذب الشجن,, ومع قلبه يعتصر قلوب أهل العشق الطموح الكادحين,, كي يضخ الدم الزكي إلى شرايين قلمه وقد (نشف ريقه),, يعبر بالحبر الأحمر عن المدى بين حلم مرصود وواقع مرفوض.
تعبت من القصيد,, من الجروح,, من انتظار طال تعبت استقبل,, طعون الزمن,, واربت على كتفه تعبت من الكلام,, من السكوت اللي يهد الحال تعبت اكثر من الحزن الذي,, ما ينتهي عزفه تعبت من الوعود,, من الصديق الطيب المحتال تعبت اعرف كل اللي,, تعرف الناس بالصدفه تعبت من العدو اللي عجز,, يدخل معي بقتال تعبت من الظلام اللي قتلت,, ولا لقى حتفه تعبت اسأل من المخطي؟! تعبت أردد الموال مادامك ما سقيت الزرع,,مالك حق في قطفه |
فهل وجدت عزيزي القارئ في هذه الأبيات سلوى؟!
هل رأيت في مرآتها مشاغل الحياة ومناكدها؟
وأخيراً,, هل أدركت البعد الانساني في قصيد هذا الشاعر الثائر حتى على نفسه؟!
|
|
|
|
|