| الثقافية
قامت الجزيرة بزيارة الى منزل الفقيد الشيخ حمد الجاسر رحمه الله ، وقدمنا واجب العزاء لولده الأستاذ معن الجاسر الذي تفضل مشكورا بإتاحة الفرصة لعدسة الجزيرة لالتقاط الصور الأخيرة لمكتبة الفقيد.
وبعد أن تجاوزنا باب المكتبة,, توقفنا للحظات ننظر لهذه المفاجأة,, فقد كانت جريدة الجزيرة هي الصحيفة الوحيدة التي ظلت على مكتب الشيخ حمد الجاسر الخاص والتي كان يكتب عليها أبحاثه وأيضا يقرأ فيها.
توقفنا للحظات ننظر لهذا الموقف,, ثم ما لبث مصور الجريدة,, ان تجول في أنحاء المكتبة,, والتقط بعض الصور الجميلة لمكتبة دار العرب الضخمة والقيمة.
رحماك ربي فقد أخذت كواكب العلم تتهاوى كوكباً إثر كوكب، فمانكاد نكفكف الدمع على فراق عالم أو باحث متميز، أو مفكر بارع الا ونرزأ بآخر ولاريب ان فقد العالم يعد حدثاً جللاً لايستهان به، لأن فقده يعني انطفاء شمعة تتوقد فيتبدد ظلام الجهل، ويلفظ انفاسه وينحسر، ولن تقوم للجهل قائمة مادام أهل العلم المخلصون يتنفسون بين الناس بعلمهم النافع, ويالهول الكارثة حين يستشري الجهل ويتخبط الناس في ظلمائه عند غياب أهل العلم، ويحضرني هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله لايقبض العلم، انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .
وها نحن نودع اليوم علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر الذي غادر هذه الدنيا الفانية، ولكنه باق في نفوس الناس بآثاره العلمية المفيدة، وجهوده المثمرة في محيط العلم والمعرفة، وهكذا شأن الحياة نزول وارتحال، والبقاء لله وحده قال تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
وقضاء الله نافذ، واذا حل الاجل فلا مرد له، والموت حق وهو سبيل كل حي، ومن عناية الله بالمؤمن ان طلب منه التسليم والرضا بقضاء الله وقدره، وفي ذلك تخفيف من هول الصدمة، وفداحة الأسى والحسرة على كل من يثكل بفقد عزيز عليه, وحينما ترامى الى سمعي نبأ وفاة علامة الجزيرة حمد الجاسر رحمه الله وجدت نفسي في ذهول للوهلة الأولى، واصابتني حيرة المتنبي حين قال:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي الى الكذب حتى إذا لم بدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى يكاد يشرق بي |
نعم لقد دمعت عيناي وجثم الحزن على نفسي لفراق عالم جليل له عطاؤه الثر في ميدان العلم والمعرفة، وله حضوره وبصماته الواضحة في محيط الثقافة والتراث العربي والإسلامي، وتجاوز بذلك حدود وطنه المملكة العربية السعودية الى أرجاء واسعة من عالمنا الفسيح.
كرس حياته كلها منذ نعومة أظافره للنهل من منابع العلم الصافية، ثم افاض منها علماً ومعرفة أثرى بها ساحة العلم وميادين الثقافة حتى صار طوداً شامخاً يعتمد عليه، وركنا ركينا يستند اليه في مجالات شتى من العلم والثقافة بعضها لايكاد يوجد فيها سواه ممن يحسن الغوص في أعماقها لاستخراج نفائسها، ومن هذا شأنه يترك رحيله فراغاً كبيراً وقد لا يتهيأ من يسد مكانه، لأنه كان يملؤه بدأبه الذي لاتواني فيه ويسهر الليالي والجد والاجتهاد في تحصيل العلم ونشره ووضع كنوزه النفيسة بين أيدي الباحثين والدارسين ومن هنا فإن المصاب جلل والخسارة فادحة.
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما |
رحم الله الشيخ حمد فقد كان طوداً سامقاً سموق العلم والمعرفة التي تربع على عرشها معلماً وموجهاً وباحثاً واسع الإدراك عميق النظرة، وناقداً بصيراً، وكاتباً ذا مواهب أدبية متعددة، هام في حب العلم، وعشق التراث عشقاً دونه عشق عنترة، ومجنون ليلى، وكثير عزة لمحبوباتهم، وملك عليه ذلك كل شغاف قلبه، واستحوذ على أقطار نفسه، يمضي سحابة يومه في القراءة والاطلاع والبحث والكتابة، يستنشق الهواء فلا يستروحه الا بعبق التراث، ويتنفس فلا يتنفس إلا علماً أو حديث ذكريات او إثارة تساؤلات حول قضايا العلم والمعرفة والأدب، وإن جئته زائرا استقبلك بترحاب بالغ، وبشاشة تأسرك، وتملأك حباً لشخصيته السمحة، وخلقه الكريم، فإذا ما استقربك المجلس لاتجد لسانه يلهج الا بذكر العلم والعلماء، وربما بادرك بالسؤال عن الجديد في عالم الكتب والمخطوطات إن كنت من محبيها، وإن ذكرت له كتاباً تعتقد انه جديد فاض في الحديث عنه، والتعريف به، وإن فاتحته في قضية علمية مما يقع في دائرة اهتماماته أو خارجها أشبعها ايضاحاً وتبينا، وإن أثرت معه قضية في محيط تراثنا الخالد اشبع نهمك، وأطفأ أوار ظمئك وتعطشك بما له من احاطة واسعة، ودراية واعية وتجربة بصيرة في هذا المجال، وإن جئت الى حديث الذكريات والرحلات وجدته تاريخاً يتكلم، هكذا كانت شخصيته، وهكذا كانت مجالسه التي سعدت بحضور الكثير منها، وأفدت من حصادها العلمي الشيء الكثير، واليوم تبدو هذه المجالس ثكلى حزينة، فقد ذهب الذي كان السمار يعيشون في كنفه محاطين بالعلم والمعرفة من كل جانب، وهو حقاً بحاثة وموسوعي كتب وألف وبحث، ودقق وحقق، ونشر وأصدر مئات البحوث والدراسات الجادة والرصينة التي أثرت ساحة الثقافة بزاد وفير من المعرفة في ميادين شتى من أدب وفكر وتاريخ وانساب، وجغرافيا وتراجم وشعر ونقد ولغة وتحقيق لنفائس الكتب، وبرز بشموخ في مجال عز فيه الباحثون وهو علم جغرافية المواضع والأماكن الذي كان لايجارى فيه خبرة ودراية وإحاطة، وهو حذامية، والقول فيه ماقاله:
إذا قالت حذام فصد قوها فإن القول ما قالت حذام |
له كم غزير من البحوث والدراسات في مجال اللغة العربية، والتاريخ والجغرافيا والأنساب، والرحلات، وهي بحوث ودراسات لايضمها كلها كتاب واحد أو أكثر، تربو على الف بين كتاب وبحوث ودراسات مبثوثة في أمهات المجلات والصحف، وجلها في مجلته الرائدة مجلة العرب وهو بحاثة موسوعي كما وصفه كل من الأستاذ عبدالله بن خميس، والدكتور على جواد الطاهر حيث ذهب الأول الى أن الشيخ حمد موسوعي فهو أديب، وهو مؤرخ، وهو جغرافي وصحفي على نهج الأقدمين من العلماء مجلة العرب ج9،10س18 عام 1414 ص 820 وقال عنه الثاني مدهش هذا البحاثة الشيخ حمد الجاسر الملقب بحق علامة الجزيرة,,, فهو علم يعد مجمعاً علمياً، وهو صورة لما نقرأ في كتب التراث عن امجد من يمجدهم التراث قولاً وعملاً وتأليفاً ، وقد أهله ذلك كله الى ان يكون عضواً فعالاً في مجمع اللغة العربية بمصر، ودمشق والأردن، وحقاً انه طُلَعَة ورُحَلَة جاب الأقطار، وذرع الفيافي والقفار، ومرت عليه سنون لم يكن يضع فيها عصا التسيار كل ذلك بحثاً عن علم ينتفع به، أو كتاب نادر يرجع اليه، أو مخطوطة نفيسة يسعى الى تحقيقها ونشرها، وطوّف ما طوّف، وتحمل عناء السفر ومشاق الترحال، وكان يستعذب ذلك، ويتطلع اليه من اجل ان يأوي الى عالمه عالم العلم والكتب والمخطوطات حيث يجد انسه وزاده الذي يروى غليله، بل يجد فيها حياته التي لاحياة له بدونها ويتجلى ذلك بوضوح من خلال عنايته بأدب الرحلات، وكتاباته العديدة عن رحلاته داخل بلادنا وحول العالم، وقد نشر جلها في مجلته العرب وأصدر بعضها في كتاب، وحقاً انه جواد كريم في بذله العلم ونشره لا يتردد في مد يد العون لكل طالب علم يتلمس عنده معلومة، أو كتاباً أو مخطوطة, يبذل ذلك بسخاء وكرم، بل كان يؤثر غيره على نفسه في بعض مالديه من نفائس المخطوطات المصورة التي كانت من حصاد رحلاته وبحثه وتنقيبه وما أعرف أن أحدا طرق بابه يطلب مالديه مما ذكرتُ ثم يرجع خالي الوفاض، وكثيراً ماكنت أطلب منه بعض المخطوطات المصورة في تاريخ المدينة فيبادر في تصويرها لي وتزويدي بها مستبشراً مسروراً، وقبل وفاته بشهور رحمه الله اتحفني بصورة مخطوطة نفسية من كتاب تحقيق النصرة بمعالم دار الهجرة للمراغي قرئت على المؤلف واضاف اليها وصوب ما يحتاج الى تصويب بخط يده، وشجعني على تحقيقها، وقريباً سيطبع الكتاب بتحقيقي إن شاء الله، والفضل لله ثم له في ذلك، وما أكثر افضاله في هذا المضمار على محبيه من أهل العلم والثقافة, حقاً انه دؤوب وهائم بحب العلم الى النفس الأخير فقد مرت به فترات وهو في بحر التسعين من عمره يعاني فيها من بعض الأزمات الصحية، ونصح بالراحة غير ان هاجس حب العلم وعشق المعرفة يأبيان عليه الا ان يواصل المسيرة، فتجده يقرأ ويكتب ويبحث، وينشر وهو قد تجاوز التسعين، وكان يجد في ذلك راحة النفس، وطيب العيش، ولو كان ذلك على حساب صحته وراحته.
وما أرحب المجالات العلمية والفكرية التي خاض غمارها، وما أوسع الآفاق التي ترك فيها بصمات واضحة فريدة، وما أكثر الذين تتلمذوا عليه وأفادوا من علمه، وليس من السهل علي في هذه العجالة ان ألم بذلك على النحو الذي يتناسب مع مكانة الفقيد في نفسي وفي نفس محبيه وفي مثل هذا المقام قد يعجز البيان ويحار الفكر، وما سطرته هنا غيض من فيض، ويختلج في النفس الشيء الكثير عن استاذي العلامة حمد الجاسر وحسبي هنا أن أردد قول الشاعر:
اذا نحن أثنبنا عليك بصالح فأنت كما نثني وفوق الذي نثنى |
وان غاب عنا الشيخ حمد وانتقل من الدار الفانية الى الدار الباقية غير انه باق في قلوبنا بأخلاقه وعلمه وآثاره، وكم من الأموات الذين يغادرون هذه الدنيا، ولكنهم يعيشون في قلوب الناس جميعاً وهو واحد منهم، فقد اضاء شمعة للعلم والمعرفة لن يخبو ضوءها بإذن الله بل يتجسد في كل حرف خطه، أو بحث كتبه، أو كتاب نشره وحققه، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى وعلينا الصبر والاحتساب ونسأل الله ان يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وان يجزيه عن كل ماقدمه من خير وخدمة للعلم خير الجزاء، وأن يلهم ذويه وكل محبيه الصبر والسلوان، إنا لله وإنا اليه راجعون.
* أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|