| مقـالات
في كتابه مسافة التنمية وشاهد عيان ذكر الأمير خالد الفيصل أنه منذ وقت مبكر اكتشف وحذر من تفشي ظاهرة الإسراف في الولائم فقال : من السلبيات التي بدأت تتصاعد حدتها في المجتمع، وتكاد تصل إلى حد الظاهرة، موضوع الإسراف والبذخ في ولائم العزائم، والأفراح، والمناسبات, فقيمة الضيف بعدد الذبائح التي تُذبح من أجله وعلى شرفه, ودرجة العُرس وأصحابه تقاس بعدد ما أُرسل إلى المطبخ من الذبائح, والطبخ أشكال وألوان، والمباهاة والتفاخر بين البشر أصبحا سباقاً محموماً وسيلاً عارماً من الإنفاق الذي يثقل كاهل الناس، لكنهم في تيار جارف، لايستطيعون التوقف وإلا اتهموا بالبخل، أو توهموا وضاعة شأنهم إن هم لم يجاروا ماهو سائد على الساحة, فالسنة الحميدة قد تنتشر ببطء، لكن صَرعات الغواية سُرعان ماتسري سريان النار في الهشيم، حتى تصبح كأنها عُرف لايمكن الرجوع عنه, ومع كل هذا,, فيا ليت كل مايطبخ يؤكل أو يستفاد به,, فالموائد تُنصب وكأنها للزينة، وما يُؤكل منها لايعاد ما يُرمى به مع النُّفايات انتهى.
وقد رأينا كيف تواترت الأنباء عن مرض (حمى الوادي المتصدع) الذي يعيش فيروسه في الغنم، وعن ضحاياه، وعن تداعيات ظهوره ومن اهمها : كساد سوق الغنم حتى وصلت أسعارها في أسواق المملكة عموماً إلى معدلات لايصدقها عقل، وأن الولائم لاتزال تغص بالذبائح غير أن الذعر من الإصابة بالمرض القاتل يصيب الايدي بالشلل ويجعلها لاتجرؤ على الاقتراب من شيء من اللحم (المرصوص) على الموائد,, فهل أصبحت النعمة نقمة؟!
هذا ما استغرقني على مدى الايام الأخيرة، حتى كاد يستقر في خاطري أنه عقاب,, فالاصوات المحذرة من مغبة هذا الإسراف الذي وصل بالفعل إلى حد البطر قد ضاعت هباء دونما تأثير يذكر، لأن الكثيرين لم يأبهوا لمنابرها المتعددة بين حاكم وفقيه ومفكر، فكان لابد في نظري أن يأتي هذا التحذير بخطاب أشد لهجة من المولى جل وعلا,, وفي سياق هذا الهاجس تداعى إلى سمعي قوله تعالى في سورة النحل وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
وبلغ بي حد الهلع أن أعيد الاطلاع على تفسير الآية فوجدت ابن كثير يقول فيمن نزلت فيهم ,,, وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يُخلط بدمه إذا نحروه ,, انتهى.
إن ما تصنعه أيدينا, وما يدور حولنا وتحت أبصارنا وأسماعنا عقوداً من الزمان والذي استشعر خطره ووصف داءه وعرض دواءه وجهد في التصدى له أمير منطقة عسير,, هذا السلوك الذي يدور حديثي عنه وهو بطر النعمة والقذف بها في سلال القمامة يتنافى تماما مع الوسط العدل الذي هو روح التشريع الإسلامي المؤكد بالأمر القرآني المتكرر,,, قال تعالى ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) (الإسراء29),, وقال جل وعلا (وكلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين ) (الأعراف31),, وهو تحد سافر لقول الحق (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)(الاسراء27),,, وهو تجاهل لحكمة شيوخنا في العلم الذين دائماً يحذرون بأنه (لايوجد تبذير إلا ووراءه حق مضيع),,, ولا اخفيكم ماتردد في خاطري وأنا أتأمل مايدور حولي منذ ظهر هذا المرض الباغت، حتى بت أخشى أن نكون قد وقعنا بالفعل تحت طائلة عقاب إلهي على غرار مانزل بالقرى من قبل، أو أنه مجرد إنذار (أخير) علىشكل غمة نسأل الله أن يزيحها عن عباده ولكن ,, لأن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد 11) فإن علينا أن نعود إلى الله وأن نشكر أنعمه بضبط استهلاكها طبقاً للحاجة الفعلية والتقدير العقلي المقبول.
وسواء أكانت مخاوفي مجانبة للحقيقة أو مطابقة لها، فإن ما أجدد الدعوة إليه اليوم هو واجب وطني في ظل التحولات الاقتصادية العالمية، وهو مطلب إنساني لتحقيق التكافل الاجتماعي,, ذلك الحق المضيع بفعل المبذرين من البشر, وهو قبل ذلك وبعده امتثال لأوامر الخالق جل وعلا واجتناب لنواهيه,, فهل نفيق، ونصغي إلى صوت الحق؟!!
شاكر شكوري
|
|
|
|
|