| مقـالات
عندما كنت مع زميلي الدكتور عبدالله الطويرقي نجول في مكاتب صحيفة USA Today كان يدور بخاطرنا سؤال أساسي خلال زياراتنا المكثفة ورحلتنا الطويلة لكبرى الصحف العالمية,, هل سنرى يوما ما نموذجا لصحيفة حديثة تصدر في بلادنا تكون على أعلى مستويات التقنية الطباعية، وتكون برؤية صحافية حديثة تنبع من المدارس الحديثة في الصناعة الصحافية,,؟ كان هذا هو هاجسنا الكبير الذي شغلنا لحوالي عام واحد تقريبا,, ونتيجة له قمنا بزيارات لكبرى صحف العالم في بريطانيا وفرنسا وألمانيا اضافة الى أمريكا,, وحيث كما خططنا كانت USA Today هي المحطة الأخيرة، بهدف أننا فعلا كنا نريد أن نتوقف عند النموذج الذي تمثله هذه الصحيفة,, والذي كان قد التصق بذاكرتنا عندما ذكرها وذكرنا بها زميلنا الدكتور عبدالرحمن العناد وأثنى على ذلك أيضا زميلنا عضو الفريق العلمي الدكتور حمزة بيت المال في أحد اجتماعات الفريق العلمي,, ولكن لم نثبت بعد على هذا النموذج حيث كنا نريد خوض تجربة النماذج المتاحة في العالم,, وتحديدا أوروبا بدولها الثلاث المتقدمة صحافيا بريطانيا وفرنسا وألمانيا,, ولكن فوجئنا بأن نموذج USA Today موجود أمامنا في ألمانيا بشكل خاص,, فكما يبدو أن تقنية المطابع المتقدمة في ألمانيا هي عامل مهم في طرح ورواج هذا النموذج الجديد,, فهي عامل فني مساعد على تنظيم الصحيفة على شكل أقسام Sections متنوعة ومنفصلة عن بعضها البعض.
ولا شك ان المدرسة الأوروبية للصحافة تختلف عن نظيرتها الأمريكية، ومن هنا جاءت زياراتنا لصحيفة ليفيجارو الفرنسية مثلا ذات مرتكزات مضامين وادارة أكثر منها ذات طابع شكلي واخراجي,, ولكن ما كان يدور داخل اجتماعات التحرير التي كنا حضرناها بشكل خاص في بعض الصحف الفرنسية كان تجربة مختلفة عن تلك التي تدور وحضرناها في بعض الصحف الأمريكية,, فمن اجتماع تحرير يومي لصحيفة ليموند الفرنسية لمدة دقائق معدودة بين رئيس التحرير ورؤساء الأقسام بينما هم يتجاذبون الحديث وقوفا أثناء تناولهم القهوة الصباحية، الى نموذج آخر في القارة الأمريكية يتحرك فيه العدد اليومي للصحيفة من خلال ثلاثة اجتماعات مطولة جدا بين رئيس التحرير ومساعديه ومسؤولي الأقسام.
كنت مع زميلي الدكتور الطويرقي نحضر ونشارك ونرصد اجتماعات التحرير لصحيفة USA Today وكنا نمازح رئيس التحرير ديفيد ميزريلا على حفل غداء أقامه وحضره بعض مساعديه اننا بصدد بناء نموذج لصحيفة في المملكة العربية السعودية تكون أشبه بصحيفتكم,, فأبدى سروره البالغ بأن يتم تبني مثل هذا النموذج في منطقة الشرق الأوسط,, وقد سألنا عن الصحافة في المملكة وتاريخها وعلاقاتها بالدولة والمجتمع,, وهل سيقتصر تقليد النموذج على الشكل أم أن هناك أيضا اهتماما بتقليدها في مضامينها وسياساتها التحريرية,, فقلنا بأننا سنسعى الى بناء نموذج ليس فقط في شكل وتقسيمات الصحيفة بل في وضع خطاب صحافي جديد للصحيفة يختلف عن الخطاب الصحافي القائم في صحافتنا المحلية دون المساس بالثوابت الاجتماعية في المملكة,, ومن المفاجآت التي لم نتردد عن ذكرها لرئيس التحرير ومساعديه ان صحيفة مثل هذه الصحيفة التي يصل توزيعها أحيانا في أعداد خاصة الى حوالي الثلاثة ملايين نسخة وتطبع في أكثر من ثلاثين مطبعة في مختلف الولايات الأمريكية، ولها طبعتان دوليتان إحداهما أوروبية تطبع من فرانكفورت، والأخرى آسيوية تطبع في هونج كونج وتبث عبر الأقمار الصناعية الى كل هذه المواقع, إلا انها لم تزل تخرج بشكل يدوي في ذلك الحين وقال لنا بأن الأمور ستتغير قريبا وهي مرحلة من المراحل التي اضطرت الصحيفة أن تمر بها,, ولكن ذلك لم يثنها من تطورها وتوزيعها في العالم,, وربما من باب المجاملة ذكر لنا انه يود حضور تدشين العدد الأول من صحيفتنا السعودية، وجاملناه كذلك بقولنا بأننا سنسعى الى تحقيق هذه الرغبة مع القائمين على هذه المؤسسة.
وعلى الرغم من ان صحيفة USA Today كانت قد طرحت كنموذج للتفكير بها خلال اجتماعات الفريق العلمي في الرياض، إلا ان هذه الصحيفة كانت تستهويني في متابعة يومية أثناء دراستي في الولايات المتحدة,, وكانت نموذجا جديدا في الصحافة الأمريكية,, حيث كنا في أروقة المحاضرات ونقاشات الدرس ومع الضيوف المهنيين نناقش هذا النموذج والدراسات والبحوث التي عملت لها وعليها,, وكنا نتوقع ان تترك هذه الصحيفة أثرها على الصحافة التقليدية في أمريكا وفي العالم,, وهذا ما حدث فعلا,, فقد ظهرت الصحف على شكل أقسام وتبويبات جديدة، كما دخلت الألوان صحيفة النيويورك تايمز وهي التي كانت متشبثة بمظهرها التقليدي الذي اعتاد عليه الناس لأكثر من مائة عام,, ولهذا فقد بحث الفريق العلمي عن نموذج USA Today لم يكن مصادفة أو مجرد تقليد بل كان من خلال معرفة علمية بالمدارس الصحافية الحديثة والاتجاهات العالمية في المضامين والأنماط الصحافية الجديدة.
وكان زميلنا في الفريق الأستاذ أسعد شحادة ينتظرنا دائما للافصاح عن النموذج التحريري الذي سنفضي به لتبدأ عجلة التنفيذ الفني والتصميم والاخراج,, وشاركنا هو في زياراتنا الأوروبية في فرنسا وألمانيا,, وحاولنا كفريق ان نترجم النموذج على صفحات الواقع,, فلم نكن نريد تقليدا صارخا,, بل محاكاة واعية للنموذج الجديد,, وعايشنا مع أسعد معاناة تولد الفكرة وطرح الحلول وبناء الشكل في وضعه النهائي,, وشرحنا وخططنا وتناقشنا لتوليد هذا النموذج الجديد,, ونقلنا له ملاحظات أساسية في النموذج الفني للصحيفة الجديدة من القارة الأمريكية الشمالية (الولايات المتحدة وكندا),, وتعايشنا جميعا طقوسية التوليد الجديد لهذا النموذج,, كما لفت انتباهنا زميل آخر في الفريق العلمي الدكتور قطب فهمي إلى نموذج مقارنة آخر من الأردن شبيه بالصحيفة الأمريكية والمتمثل في صحيفة العرب اليوم ,, وقرأناها وتداولناها كثيرا,, وتجاوزناها في نموذجنا المطروح,, ومن الأسس التي بني عليها النموذج كذلك آراء نخبة مميزة من الإعلاميين والكتاب والمثقفين في المملكة,, وهو ما اسميناه الإنتلجنسيا السعودية,, حيث كان لها آراء وإسهامات نوعية لتطوير الصحافة الجديدة في المملكة,, وهي التي عاشت تجربة ومعايشة صحافتنا المحلية بكل مقاييس الكم والنوع، وبكل درجات اللون والحركة,, ولهذا فقد بني النموذج متضمنا آراء واتجاهات هذه النخبة ذات النفوذ والتأثير في مجريات الشأن الإعلامي في المجتمع السعودي,, وهكذا فقد تأسس نموذج صحيفة الوطن لتكون مميزة في شكلها ومضمونها، وهيكليتها الادخارية والتحريرية والإنتاجية.
هذا هوالنموذج على الورق,, كما خططنا له,, ورسمناه، وشكلناه,, في مختلف زوايا العمل الصحافي,, والسؤال ,, هو ماذا تم بعد ذلك؟ وهل تم تنفيذ النموذج كاملا,,؟ وهل المنتج الحالي هو المنتج الذي يفترض أن تفضي إليه الدراسات التأسيسية؟ أسئلة كبيرة تحتاج إلى إشارات خضراء وأمكنة للحركة ومسافات زمنية كافية,, ولن أفضي بتفاصيل في هذا الجانب كما يشاطرني الفريق العلمي بذلك,, فلا نريد الانتقال بالخاص إلى مساحة العام,, ولكن الجانب المهم في المعادلة هوما هو رأي المتخصصين في نموذج الوطن الصحيفة؟
ويمكنني أن ألخص ذلك في نقاط محددة، على النحو التالي:
أولا: أود أن أقدم تحية تقدير خاصة لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز الذي رعى هذه النبتة، وسقاها، ونماها، إلى ان ظهرت على سطح الإعلام السعودي والعربي,, ونحن نعرف أنه لولا الجهود التي بذلها سموه بعد توفيق الله في كافة مراحل العمل التأسيسي لهذه المؤسسة والصحيفة لما قدر لها أن تكون,,وقد عبرت لسمو الأمير عن هذا التقدير الخاص في رسالة بعثت بها مع بوادر الصدور وقبل الحفل التدشيني للصحيفة,,وقد وجدت أن ذلك أقل شيء أقوم به في تقدير هذه القامة الشامخة في جبال الوطن,, وكان لي ولزملائي في الفريق العلمي شرف أخذ توجيهات سموه أولا بأول,, وقد ذلل سموه عقبات كبيرة أمام مسيرة الدراسات التأسيسية,, إلى أن تحققت على أفضل وجه وأرقى مستوى لخدمة هذا المشروع.
ثانيا: جاءت الوطن متأخرة بكل مقاييس التأخير الفنية,, فمن مشروع كان الأمير يتوق إلى تحقيقه خلال مناسبات وطنية أو تواريخ سابقة إلى مشروع تأخر إلى درجة كبيرة، وإلى مشروع كان الخوف في لحظات معينة انه لن يظهر تماماً بسبب الظروف الإدارية واللوجستيكية للعمل,, ونحن في الفريق العلمي نقدر صعوبة التأسيس والظروف المستجدة لكل مشروع قائم,, فما بالكم بمشروع يتأسس من بداية البدايات,, ومن الطوبة الأولى,, ولكن,, كنا قد فكرنا في ذلك أثناء مسيرة الدراسات,, وكان هاجسنا أن الأمير يريد مع التميز الحضور المبكر للصحيفة وفي المواعيد التي نتوقعها بهامش تأخير طبيعي يفرق شهرا أو شهرين,, ولهذا فنحن قد أخذنا تعهدات (سعرية وتوريدية) من كبرى مصانع المطابع في ألمانيا بأن يتم توريد مطابع الصحيفة إلى أبها والرياض خلال ستة أو سبعة أشهر ويتم تجريب العدد الاول خلال شهر واحد,.
ثالثا: لم يخدم تأخير الصدور صحيفة الوطن,, فقد انتهى الزخم الإعلامي الذي كان يصاحب التأسيس بما في ذلك دراسات التأسيس,, وتلاشى اهتمام الناس مع مرور الوقت,, وضاقت النفوس من الانتظار,, إلى ان جاء الصدور خلال مرحلة استرخاء عامة لدى القراء,, وعلى الرغم من ذلك فقد يكون الفضول هو محرك الرغبة لدى القراء في الأعداد الأولى,, وستظل الأيام تثبت ذلك.
رابعا: صاحب عملية التأخير نشرمكثف من عدد من الأقلام والكتابات وأحاديث المجالس التي وضعت علامات استفهام كبيرة أمام الصدور وفي سؤال,, ماذا ستقدم من جديد؟ وهذه المرحلة الشكية التي حاول بعض الكتاب ترسيخها في ذهنية القراء جاءت مع مرور الوقت ومع تكرارها لتثبط عزيمة القارئ وتخلق لديه توقعات معينة تصب في نطاق كون الصحيفة ستكون عادية تماما,.
خامسا: عدم تمكن الوطن من توفير مطبعة أخرى لها في الرياض العاصمة حسب اقتراحات أساسية تم تأكيدها في الدراسات مثل عقبة كبرى للصحيفة في مزاحمة المطبوعات المحلية وتنافسها على مستجدات الأخبار المحلية والدولية,, وحتى لو تم ذلك متأخرا فسيحتاج إلى حملة ترويجية أخرى لتأكيد هذا التوجه للصحيفة,, ويتم خلاله إعادة رسم صورة جديدة للصحيفة على أنها بعيدة عن إقليمية الصدور,, أو أنها ذات اخبار بايتة كما يحلو للقراء توصيفها أحيانا,, ولهذا فإن الصدور الآحادي (مكان طباعي واحد) حُسب على الوطن,, في زمن تتعدد للصحف فيه الطبعات وأمكنة الصدور,, وحتى بطبعات دولية للوطن فلا يغني عن وجود مركز طباعي رئيسي في الرياض يتواكب مع الصدور الأول لها,.
سادسا: المهم كذلك في الصحيفة انها لم تمثل نقلة جديدة في المضامين، وتنوعا كبيرا عن غيرها من الصحف المحلية,, وكنا قد طرحنا أن يكون لها خط تحرير مميز، وخطاب صحافي خاص ضمن ثوابت البيت السعودي,, ولربما يكون لهذا علاقة بالجهاز التنفيذي للصحيفة,, وعندما لم يحدث هذا تنفست الصحف الأخرى الصعداء,, فقد كانت تنظر إلى الوطن على غير ما ظهرت بها,.
وهذا لا شك يعطي مساحات واسعة لتطور وتعزيز مكانة الصحف الأخرى التي تصدر داخل المملكة أو خارجها,.
سابعا: لم يتمكن الجهاز الإعلاني للصحيفة الذي حسب ظني انه كلف الصحيفة كثيرا من الظهور بالشكل المتوقع,, فقد كانت الصحيفة في أول اسبوع لها بمساحات إعلانية متواضعة مقارنة بمثيلاتها ذات الاصدارات المستمرة,.
ثامنا: ومع عملية التأخير الطويلة تسللت أفكار الوطن إلى الصحف الأخرى,, وبدأت في عمليات التطوير في نفس الاتجاه المتوقع للوطن,, فبدأت الصحف في نفس نظام الاقسام المقترح للوطن، والذي كما يبدو انها تراجعت عنه بعد اليوم الأول من صدورها,, واكتفت به كنظام ملاحق داخلية كما هو جارٍ في باقي الصحف الأخرى,.
وختاما يجب ألا نسلب الوطن توهجها في الصدور وفرحتها بالناس,, وفرحة الناس بها,, ولكن للتاريخ والحقيقة فالوطن جاءت بأقل من المتوقع,, وفي زمن أطول من المفترض، والمضامين تتساوى مع الصحف الأخرى,, وسنظل نؤكد أن الجهود التي بذلت فيها ضخمة وكبيرة,, فأهلا بالوطن,, وأهلا بالحقيقة التي كلفت كثيراً.
|
|
|
|
|