النفس البشرية تظل كما هي على مر العصور، تحتفظ بشعورها وعواطفها، أحزانها ومسراتها، كذلك تعقداتها وعللها مهما تغير الزمان والمكان, عبر الحضارات واختلاف الثقافات ظلت النفس البشرية تعبر عن دواخلها بالطريقة نفسها.
اذا وقفنا لحظة عند شعراء غابرين نعرفهم واستمتعنا بشعرهم نجد أنهم بما ملكوا من روعة التعبير وبلاغة الكلمة ودقة الوصف يعكسون صورة عصرية لانسان اليوم بشعوره وأحزانه وأفكاره خاصة إذا أخذنا جانبا واحدا من علل النفس وهي كثيرة ومنها مرض الاكتئاب الذي اسميناه مرض العصر نجد في شعر هؤلاء صورة بالغة الروعة في وصف أعراض هذا المرض النفسي كما نعرفه في يومنا هذا, والسؤال هو هل كان هذا المرض موجودا منذ القدم وكان كذلك مرض ذاك العصر وعانى منه من عانى دون اللجوء الى عيادة الطبيب النفسي بل الاستسلام له والموت كمدا أم أننا عرفنا هذا المرض حديثا وعرفنا أعراضه وطرق علاجه؛ وبالتالي حق لنا تسميته مرض العصر؟ مهما كان الجدل فإن الصورة واحدة والأعراض هي مثل الأمس ربما لأن النفس هي النفس غابرها وحاضرها ولو أن الانسان اليوم تراوده فكرة الانتحار وانسان الأمس قد راودته نفس الفكرة كذلك وبحكم عملي كطبيب نفسي أوقفتني هذه الصور الشعرية البليغة في وصف هذا المرض:
يقول قيس بن الملوح:
فيارب اذ صيرت ليلى هي المنى
فزنّي بعينيها كما زنتهاليا
والا فبغّضها اليّ واهلها
فاني بليلى قد لقيت الدواهيا
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وان كنت من ليلى على اليأس طاويا
خليليّ ان ضنوا بليلى فقربا
لي النعش والاكفان واستغفرا ليا
هذا هو المجنون الذي هام على وجهه يجوب الصحراء متيما أخذ منه اليأس مأخذا جعله يفكر في الموت والخلاص من الدنيا فهل يا ترى كان جنونه اكتئابا مثل مرض عصرنا هذا وهل أبياته هذه وصف لما يعرف الآن برسالة انتحار أم صرخة استغاثة للفت نظر معشوقته واهلها لحالته ولعل قراءة أخرى في نفس قيس نرى فيها أن كبرياءه وايمانه بقدره يمنعانه من قتل نفسه بل يتمنى الموت فقط من أجل أن تجمعه الدار الآخرة بليلى بعد أن بدا مستحيلا ان تجمعه بها الدنيا لما شاع آنذاك من تقاليد العرب بتحريم زواج من يهيم ويتغنى بفتاة لاعتقادهم أن الزواج ما تم إلا ستراً للعار.
في هذه الصورة نجد أن أعراض النفس البشرية ذات ثوابت لا يغيرها الزمن مهما ارتقى الانسان بفكره وتبدلت أساليب العيش ومهما تغيرت سبل الوصل والاتصالات من شاد يشدو، ومناد ينادي الى هاتف يرن وفاكس يحمل أحلى كلمات الحب والغرام.
أما صاحب بثينة جميل بن معمر من قبيلة عذرة فقد عانى أيضا مثلما عانى قيس وكما حدث لقيس حدث لجميل بعد ان ذاعت قصة حبه لبثينة فحرمت عليه فظل على حبه لها يعاني حالة نفسية مزمنة لا يخلو شعره من الاكتئاب من نحول وارق وفقدان الرغبة في مسرات الحياة وعدم تذوق لذتها والانصراف عنها بعيدا لعالم آخر لا يرى فيه غير الموت حلا يراوده تارة شعاع أمل يضيء ولو قليلا حياته المظلمة بدون بثينة.
يقول جميل
لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة
وفي النفس حاجات اليك كما هيا
واني لتثنيني الحفيظة كلما
لقيتك يوما ان ابثك بما بيا
فها هو يبلغ به التشاؤم درجة دونها الموت قبل أن يحدث بثينة بحاجات نفسه وحتى ان لم يفكر في الموت يتوخى قدومه ويخافه وهذه الصورة رائعة لمرض الاكتئاب التي بها يتذبذب المزاج بين حزن وفرح تحت مظلة التشاؤم واليأس وما أصدق وصف أعراض الاكتئاب الجسمانية في بيته:
أيا ريح الشمال أما تريني
اهيم وإنني بادي النحول
علما بأن فقدان الوزن من أهم الأعراض البيولوجية في مرض الاكتئاب وعند بدء العلاج زيادة الوزن من أهم بشارات التقدم نحو الشفاء.
وهكذا ظل جميل مكتئبا حزينا حتى ادركته المنية بعد أن هاجر الى مصر وبات بها لم يذق للدنيا طعما فيما يرى غيره يستمتع بها في قوله:
أرى كل معشوقين غيري وغيرها
يلذان في الدنيا ويغتبطان
وأمشي ونمشي في البلاد كأننا
أسيران للأعداء مرتهنان
أما صاحبنا قيس بن ذريح مقتول لبنى فقد وصف في شعره حالته التي اصابته وأجاد في وصف أهم أعراض الاكتئاب ألا وهي الأرق واضطرابات النوم في أسلوب بديع فرغم مرور الزمن عليه يظل رائعا وعلميا بحتا يدعو للاعجاب إذ يقول:
فما أنا إن بانت لُبينى بهاجع
إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى
ضجيج الأسى فيه نكاس روادع
فانظر الى ضجيج الأسى ودقة الوصف وكذلك لحالته المزمنة في قوله نكاس روادع والنكاس جمع نكس أي المرض الذي لا يبرح هذا مطابق تماما لأعراض الاكتئاب الجسمانية التي تظل شهورا بل سنين الى أن يمضي فيقول:
أُقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
إذا نحن أنفذنا البكاء عشية
فموعدنا قرن من الشمس طالع
إنها روعة في وصف الأرق وقد ورد في الشعر العربي الكثير جدا في وصف الأرق والسهر والضنى والليل الطويل لكن هذه الصورة بالذات تأخذك أمام شخص اليوم يشكو لطبيب نفس مما يجعل مهمة الطبيب بالغة السهولة دون اجتهاد ليتم التشخيص وان اختلف العلاج.
هذه الصور البديعة نجدها اليوم بيننا ولكن ليس بهذا الايجاز والصدق فهو نفس المرض أصاب أناسا قبلنا ولكنهم تفرقوا بمعرفته ووصفه ولذا يجب أن نسميه مرض كل العصور.