| مقـالات
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي نهاية عهد الإلحاد الرسمي في روسيا، بل والعودة الرسمية للأديان السماوية وغيرها حتى الديانات الوثنية، وامتلأت الساحة الروسية بمختلف الطروحات الفكرية الأيديولوجية، وبالنسبة للإسلام فقد أصبحت روسيا ميداناً لنشاط الهيئات الإسلامية العالمية، ومسرحاً لزيارات كبار الشخصيات الإسلامية، ورافق ذلك تغيرات سريعة في حياة مسلمي روسيا، ووجد المسلمون أنفسهم في وضع جديد تخونهم فيه الإمكانات، والتجارب، والخلفية الشرعية الكافية، لذا أصبح الإسلام أحد القضايا الرئيسة التي تشغل بال الرأي العام الروسي، وفي مواجهة ذلك فإن مرحلة الانفتاح الروسي على العالم الخارجي، أتاحت المجال لدخول عناصر ومؤثرات خارجية في كافة الاتجاهات تفاعلت مع العناصر الداخلية وأحدثت التأثير المباشر في الإعلام والرأي العام الروسي، بل وفي تكوين أشكال الرأي العام الروسي تجاه قضايا بعينها؛ فالإعلام الغربي بكافة أنماطه وأشكاله، والاتجاهات المذهبية والطائفية التي تتحرك من خلال ارتباطها بقومياتها المحلية في المنطقة (والتي تتجاوز الأربعين قومية)، كل هذه المؤثرات تبنت أفكاراً، وطروحات، ومفاهيم تخدم اتجاهاتها الذاتية، وأطماعها ومصالحها في المنطقة، في كافة المجالات، (السياسية والاقتصادية والدينية)، واعتمدت فيما اعتمدت عليه من أساليب في التأثير على الرأي العام الروسي؛ السعي لاتهام الأطراف الأخرى، والدفع بعناصر داخلية لمواجهة الآخرين، ونتج عن ذلك الكثير من الطروحات الإعلامية، وخاصة في المجال الصحفي، وبخاصة أيضا فيما يتصل بشؤون مسلمي روسيا وعلاقتهم مع العالم الإسلامي فطفحت على الساحة مصطلحات الأصولية والوهابية وغيرها في محاولة لتسيسها أو ربطها بالتطرف، مما قد يسهم وللأسف على المدى البعيد، في أمرين:
الأول: زعزعة وحدة مسلمي المنطقة فيما بينهم، ومن ثم فيما بينهم وحكوماتهم المحلية، مما يقلل من فاعليتهم والإنتاجية المطلوبة منهم.
الثاني: التشويش على العلاقات المتبادلة بين دول العالم الإسلامي وهيئاته ومؤسساته الرسمية والخيرية مع الحكومة الروسية، ولا سيما أن هذه العلاقات لا تزال في مراحلها الأولى.
ولا شك أن المتضرر في النهاية هو واقع المسلمين المحليين في روسيا الاتحادية، وفي الجمهوريات الإسلامية المستقلة حيث الظروف المتشابهة والمصالح المشتركة، وقد يؤول واقعهم إلى حالة من الفوضى الفكرية والمنهجية، وقد يؤدي ذلك مع الزمن إلى زعزعة الوحدة القومية الداخلية ضمن إطار مجتمعاتهم المحلية.
الإسلام في روسيا اليوم
إن مرحلة إطلاق الحريات والتراجع الروسي عن فكرة الإلحاد التي فرضها البلاشفة منذ عام 1917م وحتى سقوط النظام الشمولي الشيوعي في ديسمبر 1991م، أحدث ذلك تحولات كبيرة جداً في حياة أبناء القوميات الإسلامية في روسيا، ووجدوا أنفسهم فجأة أمام وضع جديد، يتنازعهم فيه الرغبة للعودة للأصول وبعث تاريخهم الإسلامي من جديد، ويقابل ذلك مقاومة أو تثبيط الوسط غير الإسلامي في المنطقة بمؤثراته الخارجية، في ظل غياب قانون صريح يوضح حدود العلاقات، ونقاط التحرك الممكنة وخاصة خلال السنوات الأربع الأولى التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي وانيهار الإمبراطورية الشمولية.
إلا أن الرصيد الإسلامي الجغرافي والسكاني المحلي في روسيا، أثر بشكل مباشر في ظهور صورة الإسلامي في المنطقة من جديد ورافق ذلك إصدار صيغ قانونية تقر هذا التواجد وتدعمه كجزء من السياسة الروسية الجديدة تجاه الأديان، ومنها الإسلام، والذي نص القانون الروسي على أنه الديانة الرسمية الثانية بعد المسيحية الأرثوذكسية، باعتبار وجود 17% تقريباً من إجمالي السكان من المسلمين، وهذا الواقع القانوني أثر إيجابيا في سرعة انتشار المساجد، وتبع ذلك انتشار طردي في اتجاهات التعليم الإسلامي في المنطقة، ولم يقتصر هذا التواجد الفاعل في المناطق الأصلية (تاريخيا) للمسلمين مثل القفقاس، وتتارستان، وبيرشكيرستان، بل تجاوز ذلك إلى عمق المناطق الروسية (باعتبار التاريخ القيصري الطويل) فموسكو، وسان بطرس بورغ، وقوركي وغيرها من المدن الروسية التاريخية أصبحت تحمل الكثير من المظاهر الإسلامية، وتحتضن العديد من الفعاليات العلمية والثقافية والدينية للمسلمين.
وتتبع ذلك ظهور (الطربوش التركي)، والزي الخاص ببعض القوميات الإسلامية في البرلمان الروسي بحكم عضوية العديد من أبناء القوميات الإسلامية نواباً عن أقاليمهم.
وحتى على المسار السياسي أصبح من المألوف في المناسبات السياسية أن تشاهد أحد المفتين أو أكثر بجانب الرئيس الروسي، أو رئيس الحكومة إضافة إلى بطريك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
خلاصة القول: إن الإسلام في الحياة الروسية المعاصرة أصبح أحد العناصر الرئيسية المكونة لها سياسياً وثقافياً واجتماعياً.
الإسلام في الإعلام والرأي العام الروسي
يرى بعض المثقفين المسلمين من الروس، أن المسلم في روسيا لا زال يعاني من بعض جوانب التمييز بالرغم من وجود نواب في البرلمان الروسي من المسلمين، ومشاركة عدد آخر ليس بالقليل في الحكومة بمختلف تشكيلاتها، يقول مفتي داغستان السابق سيد محمد أبو بكروف: إن المجتمع الروسي خطا خطوات واسعة جداً في الأعوام الأخيرة في تفهم الإسلام، لكن ما زالت هناك أوساط كثيرة تبدي الريبة تجاه المسلمين باستمرار وعن قصد وتردد الأراجيف وعبارات مثل (الإسلامي المتشدد والمتطرف والأصولي) علماً بأن المسلمين أنفسهم يرفضون الغلو والتطرف, لكن أعداء الإسلام يرددون أقوالا تدل على نقص معرفتهم بحقيقة الإسلام ويروجها الصحافيون الذين يأخذون معلوماتهم من المراجع السوفيتية المعادية للدين، القائمة على أساس الأيديولوجيا الإلحادية، أو من الصحف والإعلام الغربي، ويسمع مثل هذا الكلام من كثير من مسؤولي الهيئات الإسلامية الروسية، وقد يكون ذلك أحد أوجه مشاكل المجتمع المتعدد الأديان، حيث يصعب التعايش بين أفراده ذوي العقائد المختلفة.
(جريدة الشرق الأوسط العدد : 7026).
وفي المقابل نجد نظرة واقعية معتدلة من بعض المثقفين الروس (غير المسلمين)، وهذه تأتي نتيجة لعلاقة بعضهم بالتاريخ الإسلامي ودراساته، يقول د, ليونيو سيوكيانيين (المستشرق الروسي المتخصص في دراسات الفقه الإسلامي المقارنة)، يقول : بعد أن قضيت أكثر من ثلاثين سنة في دراسة الشريعة الإسلامية أشعر أكثر فأكثر أنني استوعب كثيراً من القيّم والمبادئ والثوابت الإسلامية، وعلى سبيل المثال فإن من الخصوصيات والقواعد التي تتميز بعمقها في الشريعة الإسلامية هي روح الاعتدال والوسطية، ودفع الضرر، وغيرها، فمثل هذه القيّم العظيمة قد تجد أن المسلمين الذين يعيشون في هذا الجو واعتادوا عليه فإنهم ربما لا يلاحظون ذلك، لكن وجهة النظر الخارجية قد تميز هذه الخصوصية وتلحظها، وأنا بنظرتي الخارجية للشريعة الإسلامية قبل كل شيء اختار هذا البعد الذي يدل على التسامح والتدرج والمقاصد والمصالح,, وعلى هذا الأساس فإن الشريعة الإسلامية قياسا على غيرها من النظم القانونية فإنها تتميز بكثير من الخصوصيات بل هي تعلو النظم القانونية الأخرى، والمقارنة بينها وبين النظم الأخرى تظهر فوارق كبيرة، ومنها استقلاليتها من ناحية، ومن ناحية أخرى انفتاحها على الغير، فهي تستفيد وتفيد.
وفي نموذج آخر نجد البروفيسور: (روبرت لاند، رئيس قسم الأبحاث النظرية المقارنة بمعهد الاستشراق في موسكو)، يقول: إن الإسلام ليس ديناً عظيماً فقط، بل يجسد ثقافة وحضارة وفلسفة وطراز حياة، ودوره لا حدود له في جميع مراحل تطور المجتمعات الإسلامية في العالم بأسره، وروسيا والجمهوريات المجاورة لا تشكل استثناء عن ذلك,,
وأشار إلى أن كثيراً من الباحثين الذين يدرسون القضايا الإسلامية في روسيا اليوم لا يولون اهتماماً كافياً بوضع الإسلام بروسيا، وتأثيره على قيام الدولة الروسية نفسها، وفي بعض الأحيان يجري تجاهل أو التقليل من دور الإسلام في حياة روسيا.
ويبرز (د, إلكسي مالاشينكو رئيس قسم الأبحاث الإسلامية في معهد الاستشراق بموسكو) علاقة الإسلام بالدولة في روسيا اليوم، مقدماً رؤية مختلفة نوعاً ما في نظرة الرأي العام الروسي تجاه الإسلام، فيرى أن الدولة أعطت الأولوية للأرثوذكسية لدى إجراء المراسيم الرسمية رغم ادعاءاتها بالمساواة بين الأديان، ولذا يبرز تعقيد العلاقات في ثلاثي (الإسلام الأرثوذكسية الدولة)، وأن المهيمنين على السلطة اليوم قد نشأوا في المجتمع السوفيتي وصاروا يتوجهون الآن نحو الحضارة الغربية (في اتجاه علماني) لذا فإنهم غالباً ما يتخذون مواقف غير ودية من الإسلام، ويحضون بدعم الكنيسة الأرثوذكسية التي تخشى من النفوذ الإسلامي في البلاد، ولكن كبار المسؤولين الروس أدركوا عمليا الآن وجود التقارب مع المسلمين إذا ما أرادوا كسب أصواتهم الانتخابية.
وفي رؤية واقعية لموضوع الهوية والوحدة الإسلامية في المجتمع الروسي والتي تبرز بشكل جلي أحد الجوانب الهامة في نظرة الرأي العام الروسي تجاه الإسلام أو الحياة اليومية لمسلمي روسيا، وذلك من واقعه المعاش، يقول: (د, الكسندر إيجناتينكو، مدير معهد الأرميتاج، في سان بطرس بروغ) إن الانتماء الإسلامي في روسيا أصبح أمراً يستحق الدراسة والاهتمام، هذا الانتماء وللأسف يتعرض إلى هزات وتعقيدات سببها وجود جماعات إسلامية متفرقة في الرؤية والاتجاه، حيث توجد في روسيا قرابة (40) هيئة إسلامية تتنافس فيما بينها للسيطرة على المناطق الإسلامية، ويرى أن وحدة المسلمين الروس مسألة تحتل مكانة الصدارة في اهتمام المجتمع عموماً، وتتحمل الشخصيات الإسلامية المسؤولية الأولى في معالجتها.
لا شك أنه يمتزج في الساحة الروسية جملة من المفاهيم والمواقف، والإجراءات المتناقضة تجاه الإسلام,, ولكن من الجوانب الإيجابية في الساحة الروسية أنك تجد طروحات موضوعية تنصف الإسلام، وتبحث عن بعض الأعذار أو المبررات للسلوكيات الخاطئة، أو محاولات التقويم للنظرات غير المنصفة من بعض الساسة أو المثقفين الروس في جو من الحرية الثقافية في التناول والمعالجة، فمثلاً قضية (الأصولية الإسلامية) أو موضوع (الإسلام الوافد) والذي يمثل الهاجس الأكبر لدى بعض الساسة، والذي غالباً ما يكون تعبيراً تبريرياً لأي سلوك عدواني تجاه الإسلام أو بعض المسلمين, ففي هذا الموضوع الشائك يتحدث د, فيتالي ناوومكين في كتابه (الإسلام الحديث: الثقافة والسياسة)، بكل موضوعية تجاه الإسلام،
ويفند الاتجاه الإعلامي الروسي والسياسي المتطرف باتجاه الإسلام، يقول: يدوي في وسائل الإعلام وفي كلمات بعض رجال السياسة الروس وبإلحاح موضوع الأصولية الإسلامية التي يسهل تأويلها بأنها موجهة للحركة الإسلامية، علما بأن أصحاب تلك الكلمات عادة ما يبدون جهلاً كاملاً للموضوع الذي يتناولونه,, لقد كان من شأن تنشيط الدراسات الإسلامية الروسية أن تساعد على محو الأمية في هذا المجال,, هل روسيا فعلاً مهددة بالصيغة المتطرفة للإسلام (الأصولية)، دع فقهاء الإسلام وليس رجال السياسة الروس يخوضون نقاشات بشأن الأصولية,,
إن من المفيد بالنسبة لحكومتنا امتلاك نهج سياسي واضح إزاء الإسلام في روسيا وفي دول رابطة الدول المستقلة وفي الخارج, بحيث تبنى النشاطات السياسية الداخلية والخارجية للدولة بمراعاة ذلك النهج مع الأخذ بالاعتبار المحاولات الواضحة للقوى الخارجية الساعية تحقيقا لأهدافها المغرضة توريط روسيا في صراع خطير وعديم الجدوى ضد الأصولية الإسلامية، والعالم الإسلامي نفسه، الواجب عدم السماح بهذا التورط، ناهيك عن وضع روسيا في مقدمة هذا الصراع,, إن نظرية الدولة الروسية كدولة علمانية متعددة القوميات والطوائف تتطلب ضمان حقوق متساوية لجميع المجموعات القومية والدينية، ومنح المسلمين حرية ممارسة النشاطات الدينية بجانب المسيحيين.
هذه جملة من الملامح الرئيسية التي تمثل بعض وجهات النظر، بل والمواقف الإيجابية لبعض قادة الرأي في روسيا من غير المسلمين، في إنصاف الإسلام وتثبيت حقوقه أمام تجاهل بعض العناصر السياسية لدور الإسلام وثقافته وحقيقته.
ولكن من المفيد هنا القيام بأدوار إيجابية من جانب المسلمين ذاتهم سواء من المسلمين الروس المحليين، أو المسلمين في العالم الإسلامي وذلك بالقيام بدور فاعل وإيجابي بدعم المواقف الإيجابية، ويسعى لمعالجة جوانب القصور في الحياة الإسلامية الروسية، وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي تظهر بين الوقت والآخر في التناولات الإعلامية، وأوساط قادة الرأي العام في روسيا، وإن أظهر ما تفتقر إليه الساحة الإسلامية الروسية وجود صوت إعلامي إسلامي متميز ومستقل يحمل هم المسلمين، ويعرّف بقضاياهم، ويفعّل المناشط والمناسبات الإسلامية التي تسهم في زيادة تميز المسلمين بفكرهم وسلوكهم وتفاعلهم الإيجابي في مجتمعاتهم,,
إن المجتمع الروسي يحتضن العالم المسلم، والطبيب المسلم، والمهندس المسلم، بل إن من الحقيقة لا المبالغة القول إن المسلمين الروس يحملون إبداعات علمية وتقنية متنوعة، واستطاعوا أن يجدوا لأنفسهم مساحة رحبة في الحياة العامة الروسية, ولكن مساحتهم تفتقر إلى عناصر الربط فيما بينهم ليكونوا أكثر فاعلية وعطاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،.
* استاذ السياسات الإعلامية المساعد باحث مختص في الشؤون الروسية e-mail:maj. alturki@ naseej.com
|
|
|
|
|