| مقـالات
رغم ان مؤلف هذا الكتاب وهو الدكتور غازي بن سالم التمّام متخصص أساسا في الاقتصاد الاسلامي، فإننا نلتقي معه في صفحات هذا الكتاب، مؤرخا دقيقا، ومؤلفا حصيفا، وآثاريا يتتبع مفردات بحثه بجلد وصبر، وبكل منهجية وموضوعية تدعو للإكبار، وفي التمهيد الذي كتبه المؤلف لرسائله (ص 5) نجد ما يزيل هذا الاستغراب، وهو حبه للمدينة المنورة وحبه لساكنها صلى الله عليه وسلم، ذلك الحب الذي دفعه للاهتمام بكل ما يتصل بسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقول: أحاول ان أتصور الحياة مع تلك الصفوة المختارة من امة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأني أراهم من خلال نوافذ التاريخ والكاتب - حفظه الله - يجعل معرفة بعض المعالم واجبا شرعيا لاتصاله بالحلال والحرام فيقول وهو على حق في ذلك: واما ما يتعلق بحدود حرم المدينة وحماها، فيجب معرفتها وتعليمها للناس، للالتزام بما شرع الله ورسولُه، ومراعاة تنفيذ ما يترتب على ذلك من الأحكام الشرعية ، وقد قسم كتابه الى ثلاث رسائل جاءت كالآتي: الأولى في المساجد المأثورة، والثانية في الآبار، والثالثة خصصها لبيان حدود حرم المدينة النبوية وحماها: (الأحكام والخصائص).
واختتم الكتاب بمجموعة من الملاحق المفيدة جاءت على النحو التالي: (قائمة بأهل الخبرة الذين أفاد منهم، قائمة بأسماء الخرائط المرفقة، فهرس المحتويات وقائمة المراجع المستخدمة)، وقد عرض لتلك المعالم والآثار بمنطق العلم، وأسلوب الرجل المسلم الحريص على آثار نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال في خاتمة الرسالة الخاصة بالحديث عن المساجد: ان تخريب المساجد سواء كانت صغيرة أم كبيرة يعد من الظلم الذي ينبغي الاقلاع عنه، وساق قول الله عز وجل: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، وقال الإمام السمهودي : ان الاعتناء بالمساجد النبوية متعين, ونقل الكاتب أيضا عن الامام البغوي، ان المساجد التي ثبت ان الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بها، لو نذر أحدٌ الصلاة في شيء منها تعيّن كما تتعيّن في المساجد الثلاث, نقل الكاتب هذا ليرشدنا الى وجوب الاعتناء بهذه المساجد، وعدم ازالتها أو صرف الانظار عنها، ثم قال: ولنا أسوة في خير قدوة، باعتناء عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - بالمساجد النبوية، وبعمارة عمر بن عبدالعزيز لجميع المساجد النبوية، وبمن جاء بعده من ولاة الدول الاسلامية الى عصرنا الحاضر ، قلت: ويضاف الى ذلك ان الاهتمام بتلك المساجد وحرص المسلمين على الاغتراف من معينها الروحي الايماني قد تم في جيلي الصحابة والتابعين، ويردّ الدكتور التمّام على من يزعم ان التخلي عن عمارتها والاهتمام بها لأجل حماية حمى التوحيد، فيقول: وأما تصرف بعض الجاهلين وما يفعلونه من تمسح بهذه الآثار النبوية مما قد يسيء الى العقيدة الصحيحة، فان معالجة هذه الأمور تتم بالموعظة والتعليم، فان لم يُجدِ نفعا فيؤخذون بالتأديب، وأما طمس واخفاء الآثار النبوية، فلا يعتبر تصحيحا لمعتقدات المخالفين، ولكن الخير في المجاهدة واصلاح الناس .
وقال في مفتتح الرسالة الثانية الخاصة بالآبار المأثورة: وقد اقتصرت في هذه الرسالة على الآبار السبع المشهورة، وسجلتُ احداثيات مواقعها وارتفاعها عن مستوى سطح البحر، وبعدها بالمسافة المستقيمة، واتجاهاتها من المنارة الرئيسية للمسجد النبوي الشريف، وهي القريبة من الروضة الشريفة ، وهذه الآبار هي: بئر الخاتم، وبئر ماء، وبئر عثمان، وبئر غرس، وبئر بضاعة، وبئر البوصة، وبئر السُّقيا ، وأورد جزاه الله خيرا، في كل بئر الأحاديث النبوية المتصلة بها، مما يؤكد صفتها الشرعية، ويؤكد ان الاهتمام بها عمل شرعي، له صلة بالتشريع ومن أمثلة ذلك ما أورده حول بئر ماء، حيث قال: روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الانصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله اليه بئر ماء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال انس: فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة رضي الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ان أحب أموالي الي بئر ماء، وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، واني أرى ان تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه, أما الرسالة الثالثة فقد تحدث فيها عن حدود حرم المدينة وحماها, وهو موضوع تحدث عنه كثير من المؤلفين من القدماء والمعاصرين، واختلفوا حوله، ولكن صاحبنا غازي التمّام حاول ان يصل في هذا الشأن الى قول فصل أرجو ان يفيد منه المسلمون، ولعمري إن هذه الرسالة مهمة جدا، ولهي أقرب الى الصحة من بعض البحوث غير المتأنية، لأن صاحب هذه الرسالة استنطق كتب المؤرخين، واستنطق النصوص الحديثية، كما استنطق الخرائط الواقعية، واستعان بالكثيرين من أهل الخبرة من المعاصرين، حقق من خلالهم الأماكن، ووصل في ذلك الى أحكام وإحكام, ولا يسعني في آخر هذه المقالة الا ان أشيد بالكتاب وصاحبه، وان أقدم أفكاره ومقترحاته وجهده، بيد الاخلاص والتقدير، الى مقام أمير منطقة المدينة المنورة، صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، هذا الرجل الممتلئ حبا لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أكرمه الله بامارتها وأنعم عليه بتولي شؤونها، فانه جدير بأن يولي هذه الآثار النبوية ما يليق بها من اهتمام واكبار، في ظل هذه النهضة الشاملة التي نعيشها في هذا العهد السعودي الزاهر، زاد الله حكامنا تمكينا وسلطانا مبينا.
د, محمد العيد الخطراوي
|
|
|
|
|