استطراداً لحديثنا الذي فرط في الاسبوع الماضي عن تلكم الأحزان المتتالية لآهات العمر الكسيح,, كنت قد تحدثت عن صديقي ذاك العسكري العميد من أهل الكنانة وكيف لمحت عبارة وهكذا الأيام مرسومة على حائط شقته,, فترجمتها بحثاً من آهاته,, وترجمها بإحساسه المرهف رغم عسكريّته,, حدثني عن إرهاصات (67م و73) و,, و,, وأراني صوراً قديمة له أيام تلكم الاحداث العربية,, واخذ يستجلي الذكريات التي تلامس في أحداقي دمعة حرّى,, هذا الصديق عندما عدت إليه مؤخراً لأبحث عنه ألفيته وعمارته الكئيبة كئيبة حقاً,, والصمت مطبق على شقته,, فاصل زمني ينيف على العامين لم أره,.
سألت عنه وانا اقف امام العمارة: اين العميد سمير؟,, جاء صوت خافت من غرفة البوابالبقية في حياتك!! وقفت مدهوشاً أمام الموقف الحزين ألفيت القصر العيني الذي تقبع فيه العمارة كله حزيناً,, إيه ياحاج؟! تهدج صوتي وخنقتني العبرات,, سمير مات؟! نعم الله يرحمه,, وبدأ يسرد لي الحكاية,,رجعت عليه المدام وعاش معها سنة لوداعه هكذا يتراءى من خلال الحديث,.
وأخذ يستطرد في حديثه بواب العمارة : مرض المرحوم طيب القلب ومن ثم عانى منه شهوراً ومن ثم رحل إلى خالقه,, عندها بحثت عن أبنائه ودلّني البواب الى من يعرف مكانهم عن طريق أحد الزملاء في مجلة روز اليوسف والذي أفادني بعنوان أبنائه الضباط,.
عندها ايضاً سألت عن الرجل الشريد! الذي كان يعيش عند بواب العمارة بتوصية من العميد سمير يرحمه الله,, والذي يلقبه بكيتي وجعله كالخادم الذي يرسله نزلاء العمارة لجلب حاجياتهم بما تجود به أيديهم لهذا المسكين ألفيته وحيداً,, فقلت لبواب العمارة وأولاده: طيب أين كيتي ؟!
هذا الذي لم أره منذ عشرين عاما,, فقالوا: انه مريض واصبح كفيفاً,, عندها تذكرت كلام العميد سمير رحمه الله لهذا المسكين الشريد عندما ننزل من العمارة يضاحك هذا الرجل كيتي ويداعبه ويجبر بخاطره,, وقال كلمة مازالت ترن في أذني: سيب منك الهباب اللي بتشربه ياكيتي لهذا ألححت عليهم بإخراجه لي لأنه الذكرى الباقية للعميد سمير,, فأخرجوه من تحت الدرج فإذا به كفيف من جراء ذلك!! وملابسه رثّة خَلِقَة,, فسلمت عليه فقلت هل تعرفني ياحاج كيتي ؟! قال انت صاحب سمير,, فبكى المسكين وأبكاني معه,, فاحتضنته وألقمت يمينه ببعض النقود,, وقفلت راجعاً بدمعتين,, وسربال من حزن,, ومازالت الذكريات تجترني عندما أزور مصر العروبة,, وأهامس وشوشات قهوة الفيشاوي ,, أو صمت مكتبة مدبولي ,, وضجيج بولاق الدكرور ,, وإزعاج الأصوات الزاعقة في إبراهيم باشا ,, ومصطفى النحاس وسليمان باشا وغيرها,, ومازال لدي المزيد من الذكريات التي قد استعرضها مستقبلاً إن شاء الله.
قافلة الحرف
بحلول هذا الشهر الفضيل لا يسعني إلا أن أدعو الله ان يجعلنا من صوامه وقوامه وأن يتقبله منا جميعاً,.
خاتمة
للأيام جرح قد لا ينزف!!
حمد بن عبد الرحمن الدعيج
|