| الثقافية
كان النقد يمثل كابوساً في بداية النهضة الأدبية في البلاد العربية، حيث كانت الكلمة في حد ذاتها تمثل الجانب السلبي في الموروث الأدبي العربي، كما هو موجود في المعاجم العربية, وعندما ظهر الأدب الحديث، (قصة ورواية ومسرحية)، ظهر النقد لهذه الأعمال على الطريقة القديمة للنقد، وصار الناقد يتعامل مع هذه النوعية الجديدة بالمنظور القديم، على أسلوب رديء، لعدم فهم الناقد لظروف النقد نفسه، فكانت المعاملة النقدية تطل على الإبداع من البروج العاجية، مما سبب الحساسيات العالية عند الكثير من المبدعين تجاه النقاد، وبالتالي زادت الهوة بين الطرفين الناقد والمبدع وتحول الأدب إلى هجوم ودفاع, ووجد الوسط الأدبي في النقد سلطة عليا ذات أحكام مسبقة جعلت الكثير من المبدعين يتقربون إلى الناقد على حساب الفن الأدبي، بوضع رقابته الداخلية في ذهنه كعلامة من علامات الاحتراس، كما هي الحالة في النقد الاجتماعي، فخوف الإنسان من مخالفة الأعراف الاجتماعية صائبة أو خاطئة تحد من تطلعاته الفردية وممارسته لبعض الأفعال التي يجدها منسجمة مع معطيات حياته الاقتصادية والعلمية والسلوكية ,فالسلطة جماعية في مواجهة فرد أو أفراد قليل في مجتمع ورث الحساسية في مواجهة الطرف الثاني، وصارت تصرفاته لا إرادية، مقابل التصرف الإرادي، وخضع للفعل الجمعي بدلاً من الفعل الفردي, فكم من إنسان يقوم بفعل يكلفه الكثير من المال والجهد والوقت، وهو غير مقتنع به, كل هذا العمل اتقاء للنقد الاجتماعي.
هذه المشكلة انتقلت إلى النقد الأدبي، وظهر النقد في بدايته على شكل تصيد الهفوات والأخطاء، وغض النظر عن الحسنات، والعكس صحيح, وكأن الناقد يقول: إذا لم تكن معي فأنت عدوي.
وهناك ماهو أدهى وأمر من هذا كله، ذلك أن الناقد كان يخلط بين العمل وصاحبه، ونحن لا نعزل العمل عن صاحبه، فأي عمل لا تظهر فيه شخصية كاتبه، أي أسلوب الكاتب، عمل ضعيف.
لكن ليس هذا ما نقصده من العمل, فالواجب على الناقد أن يتعامل مع النص الذي أمامه بصرف النظر عن كاتبه, وقد بقيت هذه المشكلة عند من يمتهن النقد وليس من أهله إلى اليوم للأسف الشديد فيتحول النقد من مساره الصحيح، وهو التوجيه والإرشاد إلى الدجل أو الهدم، ونسوا دور النقد في تجميل العمل وسد بعض الثغرات التي لم تطرأ على بال المبدع في لحظات الإبداع وغياب اللا وعي، وهي أصدق لحظات الإبداع, فالنقد علم والإبداع فن، والفنون ظهرت قبل العلوم، فالفنون فطرة إنسانية، والعلوم مكتسبة وكل شيء ظهر كتلة واحدة قبل أن يتفرع إلى فروع، فإذا أخذنا اللغة على سبيل المثال فسنجد أن الإنسان تكلمها قبل أن يقرأها ويكتبها، وقبل أن تظهر علومها، فالنحو لضبطها، والبلاغة والنقد الأدبي لتجميلها، ولكن، ألم يكن بليغاً ونحوياً قبل التقعيد؟ ألم يعبر عن مشاعره وأحاسيسه بالرسم على الأحجار والكهوف والطين,,, ألم يقم الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي العماني بالوزن الخليلي على معلقات طرفة بن العبد، وعنترة، وامرىء القيس والمرقش الأكبر، وشعر الشنفرى,,, وغيرهم؟ وحتى في النثر، إن لم يكن هناك توافق بين الشكل والمضمون، والتركيب اللغوي بين مفردات الجملة، فانها ستفقد إيقاعها الشعري، وهذا ما يسمى في النثر باللغة الشعرية, وقد دأب العرب على نقد الشعر أكثر من نقد النثر، لأنه الديوان الذي لايعرفون علماً غيره، كما يقول عمر بن الخطاب، وهذه المقولة مقولة وقتية، صالحة في وقت الجهل بالقراءة والكتابة، أما النثر فكان موجودا قبل الشعر، عند الرهبان والكهنة، وهو السجع الذي صار علما من علوم البلاغة العربية فيما بعد، لكن النثر يحتاج إلى كتابة يوثق بها، أما الشعر فتحكمه الأوزان الموسيقية وتسهل حفظه، والدليل على ذلك، أن الخليل بن أحمد كان يسير في سوق الصفارين وسمع طرقات النحاسين الإيقاعية على الأواني، مما أوحى له بالوزن الشعري، فاكتشف تلك الأوزان السائدة إلى اليوم, وعندما ظهرت بوادر القصة في القرن الثالث الهجري بدءاً من القصة المترجمة على يد عبدالله بن المقفع، في ترجمته من اللغة الفارسية (كليلة ودمنة) لفيلسوف الهند (بيد باء) وكذلك تأثير ألف ليلة وليلة، حتى ظهر مؤسس القصة العربية وواضع بذورها، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وظهر عدد من الكتاب، مثل سهل بن هارون، وقال ابن قتيبة: (الكتاب ألسنة الملوك).
وبقي النثر الأدبي متوارثاً تؤثر فيه العوامل، السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، حتى عصر النهضة التي نستطيع تحديده بأول القرن العشرين الميلادي، والذي قام على عوالم لو لم تكن موجودة لما كان على حاله الذي هو عليها اليوم، وهي:
أولاً: التعليم، فلولا انتشار التعليم ما انتشرت القراءة والكتابة.
ثانياً: الصحافة، فلولا وجود الصحافة ما نشرت القصص، فالصحافة هي القناة التي يجد المبدع سبيله إلى القارىء من خلالها.
ثالثاً: الطباعة والنشر، وقد ظهرت في السعودية متأخرة عن البلاد العربية، ماعدا بعض المطابع الحجرية في كل من مكة المكرمة وصنعاء, وكان أدباؤنا من الرعيل الأول يكابدون معاناة الطباعة، يذهبون إلى دمشق، والقاهرة لطباعة أعمالهم, فقد طبع عبدالقدوس الأنصاري قصته (التوأمان) سنة 1930م، في دمشق، وأحمد السباعي طبع روايته (فكرة) في القاهرة، سنة 1947م، وكذلك البقية الباقية من الكتاب.
رابعاً: ظهور طبقة من المثقفين اهتمت بالقصة، نشراً ودراسة، ونقداً.
ظهور القصة القصيرة:
لم يكن ظهور القصة في البلاد العربية من الفنون المرغوب فيها، وعدم الرغبة هذا يعود إلى أسباب تتعلق بالموروث الأدبي العربي، منها اعتزاز العرب بديوانهم (الشعر) يتذوقونه حفظاً ورواية, ومنها عدم الثقة بالقصة، فيما يتعلق بصدقها من عدمه، فقد كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان، يأمر وهب بن منبه برواية قصص ملوك اليمن، كل ليلة يحضر فيها مجلسه، ويطلب منه رواية قصيدة تثبت صحة هذه الرواية، مما دعا وهب بن منبه إلى اختلاق قصيدة لم تقال أصلاً، يتقي فيها غضب الخليفة, ولا نستغرب ذلك القول، فقد ظهرت على هذه العادة الموروثة في مجالس السمر في القرية، فالقصة التي لم تشفع بقصيدة من نفس السياق، تعتبر قصة ناقصة من وجهة نظر الآخرين, وكانت القصة لا تقبل إلا من ثقة، وهي عندهم (الخبر) والغرض منها الموعظة, وفي الحديث: لايقص إلا أمير أو مأمور أو مختال.
لذلك عندما أراد رجال التعليم الأوائل إصلاح المجتمع الذي ورث التخلف من العهد التركي وما سبقه، بدؤوا بالقصص لأنها أقرب إلى إصلاح الناشئة، فكوّن عبدالقدوس الأنصاري ناديا بالتعاون مع مجموعة من المربين منهم، الأستاذ الفاضل، عبيد مدني، وآخرون من الذين أرادوا ان تقوم البلاد على أدب عربي حديث مع التمسك بالأصول العربية الإسلامية, فكتب عبدالقدوس الأنصاري قصته (التوأمان) التي ذكرناها قبل قليل، وأنشأ مجلة المنهل لتكون منبرا للقصة ونقدها، وصرح بذلك في العدد الفضي الصادر بمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على صدورها، فقال: كان اهتمامي بالقصة يعود إلى سببين: الأول، ان القصة من الفنون الراقية, والثاني خلو أدبنا من هذا الفن الجميل.
وكان وما يزال للصحافة الدور الذي لا يمكن تجاهله في رعاية القصة، ولا يمكن لأي دارس جاد لهذا الفن من أن يستغني عن الدخول إلى القصة من طريق غير طريق الصحافة, وكان من أوائل المغامرين في هذا الصدد من الرعيل الأول أدباء الحجاز، نظراً لظهور التعليم في كل من مكة والمدينة وجدة واحتضان الحرمين الشريفين، ووجود الحلقات العلمية في أروقتهما منذ الزمان القديم، وتوجه الأغنياء من المسلمين خاصة من الهند وبلاد فارس إلى المساهمة في تقديم الخدمات التعليمية إلى الاراضي المقدسة، فالسيد زينل، قام بإنشاء مدارس الفلاح في كل من جدة، ومكة ، والبحرين، ودبي, والسيدة (صولت النساء) من الهند قامت بإنشاء المدرسة الصولتية، في مكة المكرمة، سنة 1889م، وتولى إدارتها الشيخ محمد رحمت الله العثماني (نسبة إلى عثمان بن عفان), ولم ينافس إقليم الحجاز في ذلك الوقت إلا الأحساء،فهذه في الشرق وتلك في الغرب، فكانت بيوت العلم منتشرة بالشكل اللافت للنظر، حيث يفد إليها طلاب العلم من كل مكان، وتقول بعض الوثائق القديمة، إن ذلك يعني ما يسمى اليوم بالمنطقة الشرقية (الأحساء والقطيف) وتقول بعض الوثائق الأخرى، إن أبناء الأحساء ومكة المكرمة مستثنون من الخدمة العسكرية الإجبارية، تقديراً للعلم.
وقد تخرج كتاب القصة السعودية في تلك المدارس، واشتغل معظمهم في التدريس والصحافة، ونجد أول من كتب القصة القصيرة من السعوديين، عبدالقدوس الأنصاري، قصة قصيرة بعنوان (مرهم التناسي) نشرها في صوت الحجاز، في 28/11/1933م، وعزيز ضياء، كتب قصة قصيرة، بعنوان =الابن العاق= نشرها في صوت الحجاز، في 4/5/1357ه، الموافق 1933م، وكانت هناك الكثير من الكتابات التعبيرية، مابين القصة الطويلة والقصة القصيرة، حتى ظهرت كتابات، محمد أمين يحيى، الذي كتب القصة في وقت مبكر من حياته، عندما كان طالباً في مدرسة الفلاح في جدة، وكانت أول قصة له بعنوان (الوفاء) نشرها في صوت الحجاز بتاريخ 2/5/1937م، وكان عمره آنذاك مابين 12 و 14 سنة, ونشرت قصته الثانية (دموع العيد) في جريدة المدينة، في 2/12/1937م، وقصة ثالثة بعنوان (السعادة) نشرها في المنهل، في عدد يوليو، 1938م، ومما يعاب على محمد أمين يحيى أنه أهمل كل أعماله في بطون الصحف والمجلات التي ضاع معظمها، قبل عهد التوثيق الذي لم يبدأ إلا في السنوات القليلة الماضية، واتجه إلى أعماله الخاصة في المحاماة.
أما محمد علي مغربي، فكان همه همّ غيره من الأدباء في ذلك الزمان، وهو الإصلاح الاجتماعي المباشر، ونقد التقاليد البالية، والحث على مكارم الأخلاق، والاهتمام بتصوير البيئة وما يدور فيها.
فكتب، المترهبة ونشرها في المنهل في عدد نوفمبر، 1938م، وقصة وفاء ونشرها في صوت الحجاز، في 22/1/1939م، وقصة اعتراف نشرها في المنهل، في عدد يونيه، 1939م,وبجانب هؤلاء برز اثنان من الوافدين للدراسة ثم العمل فيما بعد، هما:
1 أحمد رضا حوحو، كان ذا وعي بأصول القصة القصيرة، نظراً لدراسته للغة الفرنسية في بلاده الجزائر فنجد في قصصه النزعة التشاؤمية التي سيطرت على كتاب القصة القصيرة في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، لكن ذلك التشاؤم عند الغربيين بصفة عامة وعند الفرنسيين بصفة خاصة غير من مجرى الحياة الأدبية وأسس أدباء، حديثا بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر على أيدي الجيل الجديد,أما تشاؤم حوحو فكان تشاؤم تجديد للمفهوم السائد على النثر الأدبي الذي تغلب عليه صفة الجمود الموروث من عهد الانحطاط الفكري, فلم يزد على الوصف السطحي والسجع الممل والمفاخرات بين فصول السنة,, وما شاكل ذلك, ووجد أحمد رضا حوحو فرصته في مجلة المنهل التي أسسها عبد القدوس الأنصاري، سنة 1937م، في المدينة المنورة، حيث نشر معظم قصصه فيها، لكن بالرغم مما تأثر به من الأدب الفرنسي الحديث إلا أن النزعة الزيدانية كانت تغلب على أسلوبه، كما كانت مسيطرة على أغلب الكتاب في ذلك الزمن، ففي روايته التاريخية الوحيدة (غادة أم القرى) 1948م، سيطر الجانب التاريخي عليها كما هو الحال عند جرجي زيدان في رواياته التاريخية.
له تابع
|
|
|
|
|