| شرفات
كان الأب عالما كلاسيكيا، فرض عليه التشدد منهجا للدرس وتدريب العقل، أما الأم فكانت شابة صغيرة تروي له قصصا من تأليفها، وتشجعه على احكام خيوط القصص, لذلك يقول جوتة أنا مدين لأبي بنظرتي الجادة في الحياة ومدين لأمي الصغيرة بحبي لرواية القصص .
وعندما التحق بجامعة ليبزج عام 1765م لدراسة القانون ارضاء لأبيه، وجد نفسه زاهدا في هذا النوع من الدرس، واتجه ارضاء لنفسه الى دراسة الحياة وليس الكتب، يستغل ما يرسله أبوه من مال وفير ليجوب مسالك الحياة في غير حذر,, تجده في الحفلات الموسيقية,, في المسرح,, في مآدب الناس,, وكان يخيل اليه أنه يعرف عن العالم ما لا يعرفه أساتذة الكلية!.
يقول جوته: يمرق الزمن مروق السهم,, ويمرق رائعا,, لكنه أيضا يكلف المرء غاليا، وما أشبه هذا الوصف بحياة جوته! يجرب اللهو والنساء ويغشى المجتمعات ويعتزل ليعيش مع هوميروس وشكسبير، يحلم ويغني ويكتب المقالات والأشعار والمسرحيات ولا يرتد عما في رأسه, وقد كتب أحد زملائه: ان التأثير في الأشجار والصخور لأيسر من رد جوته إلى عقله!.
وقد أوشك استهتاره في ليبزج ان يقضي على حياته حين أصيب في صيف 1768 بمرض تناسلي خطير وكان يشك في شفائه، لكنه شفي بعد وقت غير طويل وغادر الفراش عائدا الى مسقط رأسه, كانت خيبة الأب كبيرة,, مرض تناسلي وحياة لاهية! وبدلا من أن يصير محاميا يتمخض عن شاعر,, مجرد شاعر! وبذل الهر يوهان ياسبر جهدا مضنيا ليرد ابنه الىجادة الصواب، وبعث به هذه المرة الى استراسبورج لينال درجة الدكتوراه في التشريع.
في استراسبورج كما في ليبزج يستأنف جوته دراسة الحياة بطريقته الخاصة,, يتعلم العزف على القيتار ويتفلسف ويشبب ويجوب الشوارع والمطاعم ويصبح زعيم المثقفين ويقع في الحب مرات ومرات,, يخالط كل أنواع الناس ويسكن كل فنادق المدينة,, يضخ الدم في المسرح الالماني ويبحث تاريخ المانيا ورغم هذا كله استطاع ان يدخر من نشاطه غير القانوني وقتا كافيا للحصول على درجة دكتوراه في القانون، فتفاءل الأب وبعث به الى المحكمة العليا في فستزلار ليستزيد من المران, وهناك يفاجأ جوته بأن هناك حوالي 20,000 قضية تنتظر الحكم وتحتاج تفرغا لا تقل مدته عن 333 سنة، ففقد كل احترام القانون وتحول نهائيا الى الاشتغال بالأدب.
ولم ينس جوته في زحمة المران القانوني، أن يبحث عن علاقة غرامية جديدة يتوج بها وجوده في فتزلار، فاصطفى لنفسه فتاة شابة كانت قد خطبت لغيره مما سبب له ألما فادحا، فمر به وقت تراوده فيه فكرة الانتحار، وكان يحتفظ بخنجر تحت وسادته ويحاول في كل ليلة أن يستجمع من الشجاعة ما يكفي كي يدفع الخنجر في قلبه، ثم قرر أخيرا أن يؤلف قصة عن حبه الحزين، وبدلا من أن يقتل نفسه يقتل بطل قصته، وبالفعل كتب في نوبة جنون آلام فرتر , هذه الرائعة الرومانسية التي تباع على أرصفة ألمانيا كالجرائد، والتي خرج الشبان بسببها يحاكون سترة فرتر الكحلية وصدريته الصفراء، وترتدي الفتيات فستان البطلة الأبيض, وتصل القصة الى الصين فتصنع للبطل والبطلة تماثيل خزفية! وتجتاح أوروبا موجة انتحار الشبان الفرتريين على حين زهد جوته نفسه في فكرة الانتحار ومضى الى مغامرة جديدة.
لكن جوته الذي ينتهك حرمة التقاليد في جرأة واستهتار، كان في المقابل يجل أهل السلطات أعمق إجلال، ويبالغ في توقيرهم, فحين دعاه الأمير كارل أوجست للحياة في بلاط فيمار، لم يتردد في قبول الدعوة، وعاش بالقرب من القصر، يوزع وقته بين الشعر والسياسة وخدمة الأمير في اخلاص تام, ويا للمفارقة! يحتفظ بروحه الثورية في كتبه فحسب أما في الواقع والممارسة العملية فإنه يبدو خنوعا لا يليق بعبقريته.
حدث ذات مرة وهو يتنزه مع بيتهوفن ان تصادف مرور الأمير كارل أوجست، فما كان من بيتهوفن إلا أن سار متحديا يخترق الحشد في استعلاء بينما جوته الذي يحترم الأمير ربما أكثر من احترامه لفنه يخلع قبعته وينحني في اجلال، على عادة أبناء ألمانيا، فقد يزهو أحدهم بكونه شاعرا لكنه يكون أكثر زهوا بأنه سكرتير خاص لأمير من أهون أمراء ألمانيا خطرا,.
فقد كانت فيمار مقاطعة صغيرة لا يزيد جيشها عن ستمائة رجل وبضعة أفدنة!!.
لقد ضحى جوته باستقلاله على مذبح كارل ارجست، لاشك أنه يحب فنه لكنه يحب راحة نفسه أكثر، فهو شاعر يتوق الى الحياة من أجل الحس والجمال, يعيش مولعا بالصيد والانزلاق واللهو والنساء وقرض الشعر، وبفضله صارت فيمار مركزا أدبيا عالميا قرابة نصف قرن، إذ يلتف تحت لواء عبقريته أفذاذ الرجال والنساء.
ورغم حياته المترفة كان قادرا على كشف الكرامة في مظان الهوان، وامساك لحظة الجمال حتى في نطاق الدمامة، قادرا على توثيق عرى المودة بالقصابين والخبازين وعمال المناجم، ولم لا وهو حفيد لأحد الخياطين !! بل انه كان يعول من راتبه غريبين ضرعا إليه,, لقد استطاع أن يشارك المتألمين آلامهم وأن يرثى بهم وهو أعلم بأحوالهم, ربما لأنه رزق خيالا جامحا يتيح له شهود ما وراء وجوده الشخصي، وأغلب الظن أن عقله قد فاق عقول أبناء القرن الثامن عشر في تشعبه، وتعدد جوهره, فهو يدرس الموسيقى والنبات والتشريح والألوان، ويقرض الشعر ويؤلف الروايات والمسرحيات والمقالات العلمية والفلسفية بعبقرية نادرة قلما يجود بها الزمان.
كان شديد الاهتمام بكل ما يمت الى الجنس البشري بصلة ولا يستثنى من هذا غير الحرب لأنه في صميم تكوينه رجلا من رجال السلم وليس بداخله ذلك الظمأ البروسي الى القهر والاذلال, لذلك حين خرج الأمير كارل أوجست لقتال الفرنسيين وأخذ ضمن رجاله مستشاره وشاعره جوته، فوجىء بأن جوته لا يعبأ بأمر القتال وأنه يوجه اهتمامه الى دراسة الأحجار والأزهار فيما جاور المخيم, وحين اتهمه غلاة المتعصبين بانه من أنصار التهدئة، وأنه لم ينظم أغنيات للحرب كان رده:لم يحدث قط أن حملت النفس على قول لا استشعره, فأنا لم انظم شعر الغزل، إلا حين أحببت، فأنى لي إذن بكتابة أناشيد البغضاء,, وأنا لم أشعر ببغضاء .
تزايل فكر الشباب قليلا، وأصبح الشاعر الثائر الذي يبغى تحطيم العالم فيلسوفا يسعى الى فهم العالم, وعرف أخيرا طعم الاستقرار حين تزوج من كرستيانا فولبين وهو في الاربعين من عمره تقريبا, كما تعرف بعد سنوات قليلة على صديقه الأعز شيلر الذي كان يصغره بعشر سنوات تقريبا, هذا يحب الجمال وذاك يناضل من أجل العدل، وكلاهما استسلم لمصيره في خاتمة المطاف، فجوته يعيش حياة سعيدة مستقرة وشيلر الذي يؤمن بأن الفن ثورة يعاني شظف العيش وفقد احدى رئتيه وسرعان ما يرحل عن الحياة في غضون قليلة.
يهتز جوته من أعماقه لموت صديقه وتوأم روحه، فيغلق على نفسه الحجرة ويبكي كالأطفال ثم يكتب لأحد أصدقائه قائلا: لقد زايلن نصف بياني وان مفكرتي لبيضاء خاوية في هذه الفترة,, بيضاء فارغة كفراغ حياتي! وبفقد شيلر تتوالى مأساة الفقد، فيرحل من يحبهم جوته واحدا إثر واحد,, أخته ثم زوجته وأخيرا ابنه الوحيد، لكنه يمضي في طريقه شجاعا يحيل مآسيه ومسراته جميعا الى أغان خالدة.
من كان يقول أن مطلع حياة جوته الصاخبة اللاهية ينتهي به الى تلك الخاتمة الحزينة, ويجلس جوته يجتر الذكريات ويدون الصفحات وهو يتساءل حائرا: ما أبأس هذا الانسان يعيش حياته في كد ونصب بحثا عن سعادة تخايله لكنه أبدا لا ينالها,, ما سر هذا الشقاء الانساني؟
وتتبلور تساؤلاته من رائعته الخالدة فاوست الذي يرتكب أفدح وأكبر الأخطاء لكنه عن طريق هذا كله يجاهد بفطرته ليبلغ النور.
ومثل بطله فاوست عاش جوته حياته يبحث عن مزيد من النور، وبينما كان المعجبون به يعدون احتفالا رائعا بذكرى ميلاده يهرب جوته الى الجبل ويأوي الى كوخ صغير، طالما مكث به مع كارل أوجست، وهناك قرأ سطورا كان قد خطها على حائط الكوخ منذ سنين بعيدة:
فوق قمم التلال كلها يرفرف السلام هادئا, وعلى رؤوس الشجر قلما تلمح أقل نسمة، وهذه صغار الطير قد سكنت أصواتها, الصبر الآن,, فعما قليل تستريح أنت أيضا , جفف دمعه وردد الكلمات الأخيرة: فعما قليل تستريح أنت أيضا وظل يتغنى بها في طريق عودته الى المنزل حيث لازم الفراش أسبوعا دون أن يقوى على النهوض الى أن استرخت جفونه وسط همسات خدمه المتوجسة, وذابت أغنيته في الصمت الأبدي وكان آخر ما تردد على شفتيه: مزيد من النور,, مزيد من النور!
شريف صالح
|
|
|
|
|