| مقـالات
* في هذه الأيام بدأنا نلاحظ عودة مترددة للعلاقات الروسية الخليجية التي كانت شبه مجمدة لسنوات عدة.
وهذا من نتائج العولمة التي تدعو إلى تحويل الكرة الارضية الى قرية واحدة تضمها مصالح مشتركة، وفي عودة الى التاريخ القديم نجد ان روسيا القيصرية كانت تسعى الى ان تجد لها موطىء قدم في الخليج العربي، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر حاول الروس تطبيق وصية امبراطورهم (بطرس الأكبر) الذي كان يحثهم الى ايجاد شريان مائي في أحد البحار الدافئة، يخرج روسيا من اختناقاتها الثلجية، فتلك الجزيرة شبه القارة يحيط بها الجليد من كل جهاتها حيث تتصل من جهة بالصين، ومن ناحية بايران وافغانستان، وتطل على البحر الأسود المتجمد طوال العام,, وهكذا كانت تعتمل في نفس الامبراطور الطموح رغبة في تكوين اسطول بحري أسوة ببريطانيا العظمى ذاك الحين، والتي امتلكت اسطولاً بحريا نشر الرعب في كل العالم وعرض هيبتها كقوة استعمارية على العديد من الدول ومنها بالطبع دول الشرق الاوسط والخليج العربي وفارس, والباحث في تاريخ العلاقات الدولية في الخليج العربي يقف امام فصل لعلاقات لم تكتمل، حاولت روسيا القيصرية ومن ثم الاتحاد السوفيتي فيما بعد، اقامتها مع أقطار الخليج, الا انها جوبهت بمعارضة الاحتكارات البريطانية أولاً، ثم تلتها في مطلع القرن العشرين المصالح الامريكية التي استولت او بالاصح ورثت اقتصاد المنطقة الخليجية من الامبراطورية البريطانية، حين دب فيها الضعف, ولكن المصلحة المشتركة جمعت الوجود الانجلو امريكي الى الوقوف صراحة لمنع تطور العلاقات السوفيتية مع دول الخليج.
لأن ذلك يعني بالنسبة لهما، ان أقطار الخليج قد امتلكت ارادتها بين بديها واخذت تتعامل بحرية مع دول العالم وفقا لمصلحة شعوبها، وهذا حتما سيؤدي الى تقهقر الاحتكارات الغربية في المنطقة.
الذي يعنينا في هذا البحث ان روسيا حاولت الحصول على ميناء يقع على مياه الخليج العربي، وبالفعل استطاعوا اقناع فارس بقرض مالي كبير,, (ولوريمر) المؤرخ البريطاني في كتابه الشامل عن منطقة الشرق الاوسط والخليج والجزيرة العربية يصف تلك المرحلة بقوله: ايران بدأت تنزلق الى مشاكل مالية عميقة ايام الشاه مظفر الدين وبدأت مفاوضات انجليزية روسية لتقديم قرض مشترك لايران ولكن روسيا وفي حركة مناورة، قدمت لايران قرضاً منفرداً من عدة ملايين، دون فوائد، قبلته ايران دون تردد ذلك عام 1900م,, مما وضعها تحت احتكار صارم استغلته روسيا بطلب السيطرة على احد موانىء فارس على الخليج العربي، وتم لها ذلك، فأقامت لها مكتبا تجاريا في ميناء (بوشهر)الايراني ولكن بريطانيا وقفت لهم بالمرصاد وبدأت روسيا تتطلع الى الساحل العربي على الخليج وابدت رغبة في تحسين علاقاتها مع دول المنطقة العربية، وبالفعل ارسلوا بعض قطع اسطولهم يقوم بزيارات للموانىء العربية في الخليج ووصلت بعثات علمية روسية لدراسة المنطقة،وتقدموا بمشاريع لمد خطوط سكك حديد تربط مدن الخليج مع موانىء عربية أخرى قبل ذلك وفي عام 1892م كانت علاقة روسيا طيبة مع ميناء مسقط في عُمان، فكانت السفن الروسية تزور ذلك الميناء للتزود بالفحم الحجري اللازم للصناعة فيها, وعندما تكررت زيارة السفن الروسية الحربية لسواحل عُمان بشكل لافت، تحركت بريطانيا التي كانت تعتبر الخليج العربي منطقة نفوذ مغلقة لها, وعملت جهدها لمنع روسيا من الحصول على قاعدة بحرية في سواحل الخليج, وتزعم (اللورد كيرزن) البريطاني نائب الملك في الهند فكرة الاطاحة بالروس في الخليج وصرح بقوله: ان إنشاء ميناء روسي على الخليج سيكون عنصر اضطراب حتى وقت السلم، وسيفسد توازن القوى الذي وضعته بريطانيا وسيعتبر خائنا كل وزير بريطاني تحت امرته أحد الموانىء في الخليج ويقبل التنازل عنه لروسيا,وبذلك اقفل الباب تماما امام روسيا.
ولكن روسيا لم تبال ووضع احد كبار رجال الاعمال الروس فكرة مد خط حديد يربط الخليج العربي بالبحر المتوسط، يأتي من ميناء طرابلس السوري ونهايته في الكويت, وذلك عام 1898م ولكن الفكرة لم تنفذ وتوقف المشروع، ورغم ذلك استمرت زيارة الطرادات والسفن الروسية لسواحل الخليج العربي، وبخاصة لموانىء مسقط والكويت, ويبدو ان روسيا كانت عازمة فعلا للفوز بأحد الموانىء في الخليج الدافىء الذي يمكن ان يوصلها بكل العالم ويفتح امامها الآفاق، ويدخل السخونة في شرايينها المتجمدة، ويجعلها منافسة بحرية لاكبر قوة اسطولية في ذلك التاريخ وهي بريطانيا.
ولكن حدث ما جعل عدوتي الامس بريطانيا روسيا تتقاربان وذلك حين ظهرت بوادر الزحف الالماني المتمثل في مد خط حديد (بغداد برلين) وهذا ما يهدد مصالح البلدين، وكان النتيجة ظهور الوفاق سنة 1907م بينهما، وتم التفاهم على تقسيم فاضطرت روسيا بموجبه الاعتراف بمنطقة الخليج وفارس منطقة نفوذ بريطانية دون منازع.
بالنسبة للمملكة العربية السعودية في الجزيرة حاول الزعيم الروسي (ستالين) في بداية حكمه ان يتقارب معها وذلك بالسماح للحجاج الروس المسلمين الذهاب الى مكة، وذلك لنزع الفكرة التي تكونت حول الشيوعية التي ترفض الاعتراف بأي دين وتميل الى الالحاد.
بعد الحرب العالمية الأولى، وتغير ميزان القوى، والحرب الباردة مع أمريكا، صار الاتحاد السوفيتي ينسق سياسته في المنطقة بما يتفق وميول دول المنطقة، وقد أحرزوا خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين تقدماً كبيراً في توثيق العلاقة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وقد اعتمدوا لهم قنصلاً سنة 1924م في جدة، وهو كريم حكيموف وعندما قامت مملكة الحجاز وسلطنة نجد، أي وحدة الجزيرة العربية تحت حكم المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود سارعت روسيا إلى الاعتراف بها، وبذلك سبقت الولايات المتحدة وبريطانيا، في اقامة علاقات دبلوماسية مع ابن سعود, وقد تلا قنصل الاتحاد السوفيتي نص الاعتراف سنة 1926م وجاء فيه: انطلاقاً من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، واحتراماً لارادة الشعب في الجزيرة العربية التي تجلت في اختياركم ملكاً عليه، نعترف بجلالتكم ملكاً على الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، وعقد الاتحاد السوفيتي آمالاً عريضة على ابن سعود حتى اطلقوا عليه بسمارك العرب ووجهوا دعوة للأمير فيصل وزير الخارجية حينذاك لزيارة موسكو، وعندما تأخر في الزيارة أرسلوا رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتي، كالفين سنة 1927م، إلى ابن سعود يستوضحه سبب تأخر الزيارة، وقد وافق الملك عبدالعزيز على تسيير خط ملاحي سوفيتي في البحر الأحمر لخدمة الحجاج الروس القادمين إلى الديار المقدسة، كما ازدهرت التجارة الروسية في المملكة وتدفقت البضائع التي ملأت الأسواق بأسعار رخيصة جداً، وزاد الاقبال عليها، وقام الأمير فيصل الملك فيصل رحمه الله بزيارة موسكو في مارس سنة 1935م فرحبت به موسكو ترحيباً حاراً وألقى الرئيس كالفين كلمة ترحيبية جاء فيها: لاشك ان زيارتكم لبلادنا هي احدى المظاهر السعيدة للصداقة بين بلدينا .
ولكن مع المد الشيوعي والخوف لدى المسلمين من الشيوعية الملحدة، تقلصت العلاقات الروسية مع المملكة العربية السعودية، وابتعد الاتحاد السوفيتي عن منطقة الشرق الأوسط برمتها، ومن ضمنها الخليج والجزيرة العربية.
بعد الحرب العالمية الثانية 1954م اتسمت سياسة الاتحاد السوفيتي بالانفتاح والمواكبة لاحداث العالم وشمل ذلك تحسن العلاقات مع دول الجزيرة والخليج، كانت روسيا تعيش خلف ستار حديدي يمنع الخروج أو الدخول إليها، ولكن منذ عام 1955 حتى الستينات حاولت روسيا تبديد الشكوك التي قيلت حول نظرتهم للإسلام فسمحت للحجاج الروس المسلمين بالحج سنوياً، وهذا يظهر سياسة المد والجزر الخارجية للاتحاد السوفيتي، وأيام الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله عام 1955 تعهدت روسيا بتزويد المملكة العربية بكميات من الأسلحة الحديثة، وعندما احتجت أمريكا رد وزير الخارجية، فيصل بن عبدالعزيز عليهم: بأننا نشتري الحديد فقط وليس المبادئ ,, وبعد تزايد عمل شركات النفط الغربية وبخاصة الأمريكية في الجزيرة والخليج، عادت روسيا إلى الاهتمام بالمنطقة، وجعلت من نفسها مصدراً للأسلحة للمنطقة.
بعد ذلك ظلت سياسة الخيارات المتعددة، أو الأبواب المفتوحة هو ما تتبعه روسيا في علاقاتها مع كل دول منطقة الشرق الأوسط والجزيرة العربية ودول الخليج، وهذا من منطلق التغلب على التحفظات القديمة في المنطقة، ضد المد الشيوعي، وخصوصاً حسب اعتقادي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وانحسار المد الشيوعي أي زوال الخطر، من التأثير الديني، وأيضاً رغبة منطقتنا الخليجية والجزيرة الانفتاح على العالم وبناء علاقات اقتصادية واستثمارية وسياسية بدون حدود.
|
|
|
|
|