| عزيزتـي الجزيرة
عزيزتي الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته,,, وبعد:
(ما أهون الدنيا وما أحقرها وسرعة تبدّلها وتغيّرها، فلا تكاد تفرح حتى تنقلب فجأة لتروَّع وتحزن) بهذه الكلمات التي خرجت من سويداء القلب خاطبني صاحبي بعد ان اطلع على تفاصيل الحادث الشنيع الذي تعرضت له الحافلة المتجهة من دولة الكويت الشقيقة إلى بلاد الشام وتحديداً إلى الأردن وسوريا، والذي نتج عنه وفاة ستة وعشرين شخصا من الجنسيتين (السورية والأردنية) وقد تم نشر تفاصيل هذا الحادث المروع على صفحات الجزيرة الغراء, ولك عزيزي القارئ ان تتصور مشاعر اولئك الاشخاص رحمهم الله عندما استقلوا تلك الحافلة لقضاء بقية شهر رمضان مع أهليهم وأولادهم ومشاركتهم لهم فرحة العيد السعيد!!
لقد كانوا في قمة سعادتهم وكمال بهجتهم كيف لا وهم سيعودون لأوطانهم وأهليهم وأولادهم بعد فراق وغربة طويلة؟! ولك ان تتصور شدة شوقهم لأهليهم وبلادهم وحجم المشاعر الفياضة والهدايا القيمة التي تملأ قلوبهم وحقائبهم؟! وكم من الآمال والأماني السعيدة التي تخالج شغاف قلوبهم!! ولكن المنون قضى على كل ذلك في غمضة عين، حيث فارقت الارواح الأجساد، وقتلت معها تلك المشاعر والأشواق، واختلطت الهدايا بالدماء والدموع!! فيا له من موقف مهيب تلين لمسمعه الصخور القاسيات وتنهد لحقيقته المؤلمة الجبال الراسيات، فهل من مدّكر وهل من معتبر؟! كثيرا ما تمر علينا مثل هذه المواقف فنتوقف عندها برهة من الزمن ونلوم انفسنا على التقصير ونعزم على التغيير من واقعنا المؤلم، ولكن بعد ان نرجع لحيانا وآمالنا وأمانينا ننسى كل ذلك وكأن شيئا لم يكن فتكون قلوبنا الرقيقة أقسى من الجبال الصلاب، ونشغل حياتنا بالذهاب والاياب، والجري الحثيث خلف السراب، وتختلط عندنا المحاسن والمساوئ فلا نميز بين تغريد البلابل ونعيق الغراب، ولا بين الثواب والعقاب، سادرين في ملذاتنا لا نحب الوعظ ولا اللوم والعقاب!! فمتى نفيق من غفلتنا؟!
عزيزتي الجزيرة: هذه هي حقيقة الحياة الدنيا أمانٍ عريضة وآمال طويلة تقطعها فجأة منون مرّة دوارة والناس في غفلة عن هذه الحقيقة المؤلمة، لذا تراهم يؤملون ويؤملون ويغرقون في بحرٍ من الاماني متلاطم، حتى صارت الدنيا بزينتها وملذاتها وزخرفها ومتطلباتها شغلهم الشاغل وميدان حديثهم الأرحب، ولم يعد لديهم مساحة للتفكير فيما خلقوا له ومن أجله فضلا عن أن يعملوا له، عجيب أمرنا وأمرهم في هذه الحياة نستعجل مرور الليالي والايام ونفرح بذلك لنرى امنياتنا حقيقة على ارض واقعنا ولا نفكر ولو للحظة واحدة ان هذا المرور السريع يقربنا لمصيرنا المحتوم ويقضي علينا قبل ان يقضي على آمالنا وأمانينا, قال الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله مشخصا حقيقة الدنيا بعين الخبير: (ألا إن الدنيا بقاؤها قليل وعزيزها ذليل وغنيها فقير، وشابّها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم اقبالها مع سرعة إدبارها فالمغرور من اغتر بما لا يدوم والمفتون من أجهد نفسه في طلب ما ليس بمقسوم, ثم قال: أين سكانها الذين تبوؤا مدائنها وشقوا أنهارها وغرسوا أشجارها لقد أقاموا أياما يسيرة، فتنتهم العافية وغرهم النشاط وألهتهم الزخارف فركبوا المعاصي حتى اناخت بهم مطاياها على حافات الحفر، والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فوا خيبة آمالهم ويا حسرة قلوبهم، لقد كانوا مغبوطين بما صنعوا ومحسودين على ما جمعوا ولقد علمتم ما صنع التراب بأبدانهم والديدان بلحومهم) أ,ه, وكتب الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز رحمهما الله تعالى في ذم الدنيا كتابا طويلا قال فيه: (أما بعد فإن الدنيا دار ظعَن ليست بدار مقام، وإنما أُنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإنّ الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرّارة الختّالة الخدّاعة، وكن أسرّ ما تكون فيها احذرها تكون لها، سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر)أ,ه.
وقال الشاعر الأول:
إلى دُنياك انظر باعتبارٍ
تجدها دار ذل مع فناء
إلى كم تحمل الأوزار فيها
مع الشهوات تسري يامرائي
أما آن انتباهك من غرورٍ
به أصبحت بين الأغبياء
تيقظ وانتبه واقبل بقلب
على مولاك تظفر باهتداء
وقف بالباب واطلب منه عفواً
عسى تحظى بصبح أو مساء |
هكذا كانت نظرة سلفنا الصالح لحياتهم الدنيا، فما الذي غيّرنا عنهم؟! الجواب سهل وميسور حيث انهم عرفوا حقيقة الدنيا حق المعرفة فابتغوا فيما رزقهم الله فيها من الشهوات الدار الآخرة ولم ينسوا حظهم من الدنيا فربحوا الدارين اما نحن فلم نعرف حقيقة الدنيا فعمرناها وخرّبنا الآخرة ولذا فالأغلب منا شغلته دنياه عن أخراه وكره الموت لأنه ينقله من الدار التي عمّرها إلى الدار التي خرّبها والنفوس بطبعها تكره الانتقال من العمار إلى الخراب.
أحمد بن محمد البدر
الزلفي
|
|
|
|
|