| مقـالات
الغضب إحدى العواطف التي تجتاح الإنسان بدرجات مختلفة من الحدة وفقا لضعف وقوة المثير وحالة الإنسان النفسية وقت الإثارة, وقد يثار الإنسان للغضب بخطر حقيقي في الحاضر أو بما يرمز إليه الموقف أو بذكريات الماضي.
وبوسعه إبقاء الغضب حيا لسنوات, وأكثر من ذلك أن الإنسان قد يغضب باختياره وذلك باستعادة حدث أو أكثر من أحداث الماضي وإطالة التأمل السلبي فيه.
والغضب هو العاطفة التي يشعر بها الإنسان ومظاهره السلوكية الانفعال وقد يتعداه إلى التعدي باللفظ أو اليد, وفي تراثنا العربي القديم والحديث وعاداتنا هناك تأكيد على فضيلة كبح جماح الغضب وعدم الانقياد لفورته.
رحلتي مع الغضب
وقد مررت بعدة مراحل فيما يخص الغضب, فالمرحلة الأولى هي مرحلة كبت الغضب, وبما أني من جيل تحمل فيه الصغار مسؤولية الكبار وانضجوا قبل أن يصلوا إلى مرحلة النضوج فإن كبت الغضب هو ضرورة أخلاقية طالما أن الذين يتعامل معهم الإنسان هم من أجيال أبيه.
ولست وحيدا في هذا السلوك بل إن العالم كله كان يرى في ضبط النفس فضيلة وإن كانت بدرجة تقل عن درجتي, وذلك العصر بالنسبة للغرب هو عصر الانضباط البيوريتاني وعصر التحضر والكياسة, وعندما كنت أدرس في الجامعة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات كانت تجتاح أمريكا موجة من الأفكار والنظريات الجديدة حول علم النفس والسلوك والعواطف, وظهر تيار جديد تزعمه عدد من علماء النفس وعلماء السلوك يعرف بالمنفسين, ويدعى هؤلاء أن العواطف السلبية كالغضب عندما تكبت فإنها توجه الى الداخل وتظهر بصورة كآبة وقلق وأعراض أخرى, وقالو انه من أجل الصحة النفسية فإن على الإنسان أن ينفس عن غضبه وذلك بتوجيهه نحو الشخص الذي تسبب في إثارته.
وكالعادة تعلق على هؤلاء كثير من المقلدين والمتحمسين الذين أصدروا الكتب وأعدوا المناهج وفتحوا الصفوف وذهبوا مذاهب مختلفة في تطبيق هذه النظريات.
وقالوا ان الشخص إذا لم يستطع مواجهة خصمه فليتصوره بصورة دمية أو أي شيء آخر وليحطمه وليصرخ,, إلخ.
وقد اعتنقت هذه الأفكار مع من اعتنقها, ومع وجود غضب متراكم لدي نتيجة لكبته طوال السنين فإني قد فتحت الباب لوحش هائج, ورغم أني لم أكن عدوانيا في مواجهاتي إلا أنني وجدت أني قد أصبحت على الطرف الآخر من المعادلة, وأصبحت المواجهة لدي عادة لا أستطيع مقاومتها, واستمر الحال هكذا لسنوات بين الصعود والهبوط.
ولكني تدريجياً بدأت أشعر بعقم هذا الأسلوب وعدم جدواه, فحتى لو شعر الإنسان أنه يملك الحق فإن انفعاله قد يقلب الحق عليه, والصبر والأناة ضرورة حتى مع من يشعر المرء أنه ظلمه, وقد تعلمت أنه وإن كان الإنسان يرى أنه محق في أمر من الأمور إلا أن آخرين قد لا يرون ما يرى، ذلك لأن العدالة في بعض الأمور هي نسبية وليست مطلقة وتخضع لمقاييس الفرد وخاصة في غير الحدود التي بينها الشرع والتي لا اختلاف عليها.
وبما أني لا أرغب في العودة إلى سلوكي الأول فإني بدأت بالبحث عن أسلوب يكون وسطا بين الاثنين ومن حسن الحظ انني لست الوحيد في هذه المتاهة فقد بدأ يفكر معي الكثيرون, ومن أهم الكتب التي صدرت بهذا الشأن في الثمانينيات هي: Carol Tavris: AnGER: The Misunderstood Emotion.
WILLARD GAYLIN,M.D: THE RAGE WITHIN.
ومن تجربتي وتفكيري وقراءاتي توصلت إلى ما يلي:
إن الانفعال والثورة يزيدان الشعور بالغضب ولا يخففانه وقد يثيران سلسلة من العواطف السلبية الأخرى كالندم والخزي واحتقار الذات, كما أن الإنسان لا يستطيع الانفعال في كثير من الأحوال وخاصة على من يكبرونه, ويلعب تفسير الإنسان للواقعة دورا في إثارته وكذلك حالته النفسية ساعة الاستفزاز.
ولذلك فإني وجدت أن أجدى طريقة للتصرف عند الغضب هي: الهدوء التام وعدم إطاعة النفس في ميلها لتفسير الحدث تفسيراً سلبياً كأن تعتبره تهديدا أو احتقارا فهذا التفسير يزيد من الإثارة, بل يلتمس العذر للطرف الآخر ويفترض أنه دفع إلى موقفه بضغوط أخرى, كما يجب أن يراعي الإنسان حالته النفسية قبل الحدث فإن كان متوترا فليعلم أنه ميال في هذا الحالة الى المبالغة في رد فعله, وأنصح بالمشي أو الجري لاستهلاك الطاقة المتولدة ومعالجة الموقف بعد هدوء المرء، وأجدى من ذلك تعلم الاسترخاء العميق ففيه تحييد للغضب وقد كتبت عنه في مقال سابق في العدد رقم 10298 من جريدة الجزيرة وإذا كان لابد من الرد في الحال فليكن موجزا مع تجنب أية إثارة.
والتماس العذر للخصم إذا لم يكن عن أصالة في الحلم والاعتدال فليكن عن ترفق بالنفس وتجنيبها شر ما سيعصف بها إذا سمح المرء للغضب أن يجنح به إلى التطرف والإفراط, وما أسرع ما تكتسب عادة الاعتدال هذه, وإذا انفعل الإنسان فإنه يأخذ موقفا من القضية يصعب التراجع منه فيما لو هزم فيها.
اما إشعار الشخص الذي أثار الغضب بمشاعر الشخص المثار نحوه فهو يعتمد على مدى الاحتكاك به, فإذا كان الاحتكاك دائماً فلا بأس من إشعاره بطريقة لطيفة وما عدا ذلك فمن الحكمة ان يعرف المرء ما يجب أن يتجاهله.
وقد حققت بهذا الأسلوب الهادئ ما صعب تحقيقه بالأساليب الفضة رغم أن الحق فيها كان بجانبي, هذا مع الاحتفاظ بالهدوء واحترام النفس، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ما دخل الرفق شيئاً إلا زانه وما فقد من شيء إلا شانه , والله الموفق.
|
|
|
|
|