| عزيزتـي الجزيرة
بزغت شمس الصباح لتثبت لأهل حائل وفاة أحد علمائها الذي طالما شربت منه تلك النفوس الظامئة، وها هي مدينة حائل تحزن لفراق ذلك الشيخ الذي اختطفته ايدي الموت من بين يدي أمه الحانية، وها هو الليل يخيم على تلك المدينة ليسدل عليها ظلامه المحزن المخيف فحق لها أن تحزن، وحق لتلك الدموع ان تنسكب لفراق ذلك الوجه الطاهر، كيف لا تحزن عليه وكيف لا تفقده وقد احتضنته قرابة 34 عاماً كما تحتضن الأم ولدها الرضيع فكان الابن البار والولد الصالح، فقد ربى فيها أجيالاً، وكتب فيها مجلدات، وخرَّج أجيالاً من طلاب العلم، وحملة الشهادات العالية.
في يوم الأحد 12/10/1421ه تلقت كلية المعلمين في حائل وفاة أحد علمائها وأساتذتها إنه الدكتور محمد لقمان الأعظمي الندوي، رئيس قسم الدراسات الاسلامية سابقاً، ها هو اليوم يلحد في قبره بعد عمر حافل بالدعوة الى الله والتدريس وتربية أبنائه الطلاب، وها هو منزله في حي (الطريفي) يحن الى صاحب اللحية البيضاء الذي اتصف بالحلم والكرم مع قلة موارده المادية، فمجلسه لا يكاد يخلو من أحد, وحيث إن كل عالم لابد له من الابتلاء فقد ابتلي الشيخ بأن حرم الذرية وحرم الأبناء لذا (لا بواكي عليه) ولكنه لم يحرم من أبنائه الطلاب، ولم يحرم من المؤلفات التي مازالت تدرس في الكلية فهي علم ينتفع به يصله أجرها إن شاء الله ولعلنا نترك المجال للشيخ رحمه الله ليحدثنا عن نفسه عبر هذا الشريط المسجل بصوته الضعيف.
قال رحمه الله تعالى وغفر له: (ولدت في قرية من قرى الهند تسمى أذرجان ويقال إننا ننحدر من نسل عربي يتصل نسبنا بعثمان بن عفان رضي الله عنه ومن نعم الله عليّ أنني نشأت وتربيت في أحضان العلم والعلماء في واحدة من واحات اللغة العربية في أعماق الهند في دار العلوم لندوة العلماء (بلكنو) ففيها تعلمت منذ نعومة أظفاري اللغة العربية والقراءة في كتب أستاذي أبي الحسن الندوي، وكان يعقد جلساته بعد العصر في ساحة مبنى الضيافة وكانت أشبه بندوة مفتوحة لكل من اراد الاستفسار عن العلم والعلماء, درست الشريعة على الشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي، ولقد حقق الله عز وجل لي أعز امنية هي الرحلة الى مصر حيث الأزهر ومنابع العلم والمعرفة، وفي عام 1958م قدمت الى مصر ودرست في جامعة الأزهر وحصلت على درجة العالمية مع إجازة التدريس من الجامعة وعلى ليسانس وماجستير من جامعة القاهرة, وكنت خلال اقامتي في مصر اتردد على بعض المشايخ مثل الشيخ أستاذي محمد الغزالي في شارع الأزهر والشيخ الفقيه محمد أبوزهرة في بيته في مصر الجديدة، كما كنت أتردد على بعض مكتبات العلماء في ديار الكنانة مثل مكتبة الشيخ محمود شاكر وهي زاخرة بالمطبوعات والمخطوطات النادرة, وقد امتدت إقامتي في مصر من عام 1958م الى عام 1966م وقد كنت أثناء هذه التسع سنوات أحضر مجالس الشيخ محمد الغزالي وتلميذه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي, وكان من بعدها فيض النعمة الحسنى إذ منَّ الله عز وجل عليّ بنعمة الرحيل من مصر الكنانة الى معقل العروبة والإسلام بلاد الحرمين والعقيدة الديار السعودية فكان الوصول الى أعرق مدينة في ديار نجد وبين جبلين عريقين، إنها مدينة حائل عروس الشمال وكان الذي تسبب لي في ذلك وذلل لي سبل التدريس في ديار الحرمين الشيخ محمد محمود الصواف, في عام 1967 م تقريبا حلت قدمي ضيفاً على أهل حائل فاستقبلني آنذاك وأكرمني بكرمه الشيخ عيسى سعود العلي رحمه الله والاستاذ المرحوم ابراهيم الخياط والأستاذ عبدالرحمن الملق فكان في استقبالهم استقبال الأجاويد للغريب الحبيب, فعملت في معهد المعلمين الابتدائي ثم المتوسط ثم معهد المعلمين الثانوي، ثم كان لي بعد ذلك شرف العمل في مكتبة حائل العامة ثم اشتقت الى التدريس فعدت الى المعهد مرة اخرى، وبعد سنوات تحولت الى كلية المعلمين في حائل وأصبحت رئيساً لقسم الدراسات القرآنية قرابة خمسة عشر عاماً, ومن اجل ما منَّ الله به عليّ خلال حياتي في مجال الدعوة ان صدرت الموافقة السامية على اختياري مع اربعة وسبعين داعية للتوعية الاسلامية في موسم حج 1393ه ونشر هذا الخبر في العدد (429) من مجلة الدعوة بتاريخ 9/11/1393ه تحت اشراف سماحة الشيخ المرحوم عبدالعزيز بن باز رحمه الله وفضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله وكان من ضمن هذه التوعية الشيخ سليمان بن عامر العامر حفظه الله كما من الله علي ان ذهبت للدعوة الى الله الى جنوب افريقيا لمدة شهرين, أسأل الله ان يجعل ذلك خالصا لوجهه وأن يجعله في ميزان حسناتي في عام 1988م حصلت على الدكتوراه من جامعة القاهرة، وكان عنوان الرسالة (مجتمع المدينة المنورة في عصر النبوة كما يصوره القرآن الكريم) وهذا مطبوع ومن مؤلفاتي التي مازالت تدرس في الكلية (دراسات في الحديث النبوي) كتب حسب مفردات الكلية ودراسات تربوية في الأحاديث النبوية) ا,ه.
ويبدو ان الشيخ كان محباً لحائل ومولعاً بأهلها حتى إنه نسي مسقط رأسه فبعد ان اكمل الستين سنة وصل الى نهاية المطاف في التدريس وأحيل الى التقاعد إلا أنه كان مازال متمسكا ببلاد الحرمين يحن إليها ولن يفرط فيها حتى إنه يتمنى ان تفيض روحه في هذه البلاد المباركة كل ذلك حباً لها ورداً لبعض فضلها عليه فتحول بفضل الله الى أفضل بقعة مكة المكرمة وانضم الى قسم الدعوة والتأليف في رابطة العالم الاسلامي بمكة المكرمة عام 1421ه وما زال الشيخ منهمكاً في التأليف والدعوة الى الله حتى مرت تلك السنون حتى وصل الى الستين سنة وكأنها ستون شهراً.
ويبدو ان الشيخ أهمل صحته فدب إليه المرض وسرى اليه الوهن حتى أقعده المرض وأدخل المستشفى ومكث فيها أشهراً حتى فاضت روحه في يوم الأحد 12/10/1421ه في مدينة الرياض، فنسأل الله ان يغفر له ويرحمه وأن يسكنه فسيح جناته.
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
ولعنا في هذه الاسطر على عجالة لم نبخس الشيخ حقه وسوف يصدر كتيب عن حياته إن شاء الله تعالى, فنسأل الله الإعانة والتوفيق.
أولئك قوم ان بنوا أحسنوا البنى
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها.
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا. |
فهد مطني القمعان
قسم الدراسات القرآنية - كلية المعلمين حائل
|
|
|
|
|