| مقـالات
متى يعي العرب أن الوجود للتواجد فقط لا وجود له في قواميس وسجلات تاريخ الحضارات الإنسانية، وما ذلك إلا لأن الحضارة تجارة وشطارة في مزادات التاريخ : إنها استثمار عقول، وإعمال أفكار، واستغلال قدرات، وجسارة سلاحها الثقة والعزم، ومطيتها اللغة، وترجمانها السواعد والأقلام. إن التاريخ لا يفتأ يخبرنا بأن التفاعل الفكري والحضاري منظار ذاتي يكشف للذات كوامن علل الذات فيدفع بالأمم إلى مراكز الصدارة، مما يمدها بالقدرة على تصدير الفائض فكراً وصناعة وإرادة! كذلك. إن العكس صحيح أيضاً: فالأمم الوجلة غالباً ما تكون عرضة لرهاب التفاعل الحضاري فتنتهج الحذر حتى ينهكها الحذر، وتركب صهوة التراجع والانزواء، وتصاب بالصدأ الحضاري وتغترب عن ذاتها لصالح غيرها حيث إن «كل حضارة مغتربة خارج نفسها مرتبطة بشيء خارج عنه» وكما قال الفيلسوف الألماني هيجل .
إن في العزلة والانزواء ضوىً نتاجه انضواءً قسرياً تحت مظلة الاعتمادية،وذل الحاجة، ونهْم الاستيراد دون ادراك حقيقة أن في الاستهلاك المادي استهلاكاً ثقافياً وانهاكاً لا يعادله سوى انهاك العزلة والانزواء!: فمفهوم الاستهلاك المستورد يتعدى حدود الاقتصاد ليتسلل قفزاً وراء أسوار ما هو مادي إلى ما هو ثقافي وما ذلك إلا لأن في كل سلعة مستوردة قيم فكر وأنماط سلوكات مستوردة.
إن الحضارات كائنات حية لها دوراتها التاريخية التي لا تختلف البتة عن الدورة الدموية لجسم الإنسان، ولذا فهي ذات أعضاء حيوية.. عقلية، وفكرية، ولغوية، ونفسية، تجددها الحركة ، والتغذية الفكرية السليمة، ويؤكسدها الجمود والدعة والسكون، ولنا أبلغ دليل وأعظم قدوة وحافز فيما يشهد له التاريخ من أن الحضارة الإسلامية أجرأ وأغنى حضارة عرفها التاريخ الإنساني تفاعلاً وانفتاحاً وأخذاً وعطاءً، ومماحكة حضارية، وتلاقحاً ثقافياً، وثقة فطنة ، و تغافل عارف ، مما زودها بوقود عبور القارات في زمن لم يكن فيه السفر في مناكب الأرض متاحاً ..فتسافر وتنازل وتصارع، فتلغي حضارات، وتحتوي وتسيطر على حضارات قاسمها المشترك أنها كانت تفوق حضارتنا الوليدة/ الناشئة آنذاك بالسبق الزمني، والتراكم الحضاري، والقوة والمنعة والممارسة والتجارب الحياتية.
أين كان موقع لغتنا العربية من كل هذا الاعراب الحضاري؟ ، وكم كان حجم خسائر أوائلنا لغة وثقافة في صراعهم الحضاري قياساً على مكاسبهم من هذا الصراع؟... ألم تفق المكاسبُ الخسائرَ..؟ ألا يحفزنا على التفكير ما حدث للغة الجاهلية التي سرعان ما تكيفت تهذيباً وتشذيبا بمجرد أن تفاعلت مع معطيات حضارة ديننا الرباني العالمي العظيم، بل إن لغة صدر الإسلام قد سايرت وواكبت حتميات التفاعلات الحضارية التي استجدت لاحقاً من حقبة أموية عربية صحراوية/ وعربية نهرية ، فعباسية عربية فارسية ..إلخ، بل أليس من الصحيح تاريخياً أن اللغة العربية كانت لغة غالبية أهل الأرض على غرار فرضيات ومفاهيم عولمة عصرنا هذا؟ بل ألم تكن خرائط الجغرافيا تُرسم وجهة الجنوب نحن! في أعلى هذه الخرائط لا أسفلها كما هو الواقع الآن؟.. أَوَليس من الثابت تاريخياً معايرة! نساء أوروبا لرجالهن من خلال مقارنتهم بمتحضري زمانهم: العرب، وكما قرأت ذات مرة للروائي الأمريكي مايكل كرايتون؟ .. بل ماذا عن المكتسبات الأخرى في الاقتصاد، والفلسفة، والمعرفة، والعلم..؟، أَوَليست هذه المكاسب دليلاً أكيداً على ثراء التفاعل وفقر الانزواء..؟
يتبع
للتواصل: ص ب 454 رمز 11351 الرياض
|
|
|
|
|