| مقـالات
الكلمة بريد القلب واللسان مغرافه، ولذا تكتسب الكلمة التي ينطقها اللسان اهمية تعبيرية ذات قدرات دلالية وتأثيرية ذات صبغة ايجابية او سلبية، ومن هنا حث الانبياء والرسل والحكماء والعقلاء في كل عصر وفي كل مكان على الكلمة الطيبة، لان الكلام الذي لا يترتب عليه خير هو من العبث الذي لا يلائم تكريم الانسان وتفضيله على كثير من المخلوقات.
والكلمة كائن متجدد، لان التجدد ضروره حتى تستطيع الكلمة ان تفي بحاجات الانسان التعبيرية من حيث الزمان والمكان والظروف المحيطة والعلاقات الاجتماعية المتشابكة التي هي قوام حياة الانسان ذاته.
وفي ضوء اهمية الكلمة وعمق تأثيرها نجد ان كل كلمة لها دلالات تأثيرية، وان المولى عز وجل وضع محاسبين على كل انسان يحصون هذه الكلمة عند النطق بها لما يترتب عليها من نتائج دنيوية من حيث الفهم والآثار، والاهم ما يترتب عليها من نتائج اخروية من حيث الثواب والعقاب.
من المهم التأكيد على ان الحساب على الكلمة يختلف عند الله عز وجل وعند الناس، فحساب الناس على الكلمة انما يتم بحسب فهم المخاطب لها ولدلالاتها ولتأثيرها، وقد ينظر الانسان الى القرائن المحيطة وشخص المتكلم عند الحكم على المقصود بالكلمة، الا ان الحكم في النهاية يظل ظنياً بحكم طبيعة الانسان الظنية في الحكم على الآخرين.
في حين ان المولى سبحانه وتعالى يحاسب على الكلمة بحسب قصد الانسان منها، لانه مطلع على الباطن والخفيات وعالم بدقيق النيات، بعكس الانسان الذي يحكم على الظاهر فقط، ومن هنا اختلفت طريقة الحساب على الكلمة.
ولان الطبيعة البشرية في تفسير الكلمة وتتبع المقصود بها ذات طبيعة ظنية فقد فتش الانسان عن معينات تعينه على صحة الحكم على المقصود بالكلمة، ومن اهم تلك المعينات في رأيي الخاص جغرافية الكلمة.
ما المقصود بجغرافية الكلمة؟ ما حدودها؟ ما طبيعة المناخ فيها؟ ما ثرواتها وصناعاتها؟ وهل للكلمة دلالات فكرية تختلف باختلاف الطبيعة الجغرافية؟إلخ ذلك من الاسئلة الجغرافية المعروفة.
اسئلة كثيرة تطرح ويتجدد طرحها والاجابة عليها تتنوع كتنوع الاجابات على اية اسئلة مطروحة حول موضوعات ذات طبيعة شمولية لا يمكن تحديد جزئياتها مما هو موجود في حياتنا الدنيا كثيراً.
اظن ان طبيعة الحال والمقام تستدعي ان اجتهد للاجابة على تلك الاسئلة من خلال التأمل بمنظاري الخاص في مدلول الكلمة ومدلول الجغرافيا، ثم تكوين مزيج يجمع بينهما او عجينة من المدلولين، وهاكم نتيجة تأملاتي:
المقصود بجغرافية الكلمة في رأيي هو اختلاف المقصود من الكلمة او تأثيرها باختلاف موقعها الجغرافي من حيث المكان والزمان والفكر .
اظنني قد اجبت بهذا التعريف عن عدد من الاسئلة واظن ان البيان يحتاج الى مزيد من البيان فاليكم التفصيل:
هناك كلمات ذات نطاق واحد لكن المقصود منها في مكان يناقض المقصود منه في مكان آخر،وهناك كلمات تحمل المقصود ذاته في مكانين مختلفين ولكن لشيوعها في مكان اصبحت عادية التأثير ولندرتها او عدم استعمالها في مكان آخر اصبحت قوية التأثير البلاغي او البياني او غير ذلك من صور التأثير.
مثلاً هناك بعض الاسماء في بلادنا يحملها عدد من الاسر في مناطق مختلفة من بلادنا دون ان تكون لها دلالات سوء او تعيير، ولكنها تحمل عاراً وشناراً وتكون مثار تندر وتعجب في بلاد المغرب العربي، برغم ان ماعون الكلمة الذي نغترف منه لغتنا هو ماعون واحد!!
الحديث عن اختلاف المقصود بالكلمة من حيث المكان والزمان والفكر المصاحب لها يتطلب بحوثاً علمية متخصصة وجهوداً بحثية خارقة من اجل الاحصاء والبيان والمقارنة والبحث عن مصادر الاختلاف اللغوية ان وجدت، واسبابه وتأثيراته.
ولكنني هنا سأضرب مثالاً او مثالين وسأكتفي بذلك حتى لا اثقل على القراء الكرام، ولان المقصود من هذا المقال هو التنبيه الى هذه الظاهرة ظاهرة جغرافية الكلمة وضرورة بحثها وتفنيد دلالاتها وتأثيراتها المختلفة من علماء الاجتماع والاخصائيين النفسيين، بل وفي كل مجالات الحياة.
قبل ان اضرب امثلة اود التنبيه الى ان جغرافية الكلمة قد تكون ذات طبيعة تناقضية وقد تكون ذات طبيعة تشعبية. وازيد للتوضيح فأقول: ان هناك كلمات في مكان ما أو زمان ما تشتهر على الالسنة حتى تصبح عادية، ولكنها عندما تقال في مكان آخر او زمان آخر لم يتعود الناس فيه عليها تصبح غريبة سواء اكان مصدر الغرابة جمالها او سوءها.
في امسية من امسيات ندوة الشيخ عثمان الصالح حضرت محاضرة عن هموم الجزائر لمحفوظ نحناح، وعندما نطق كلمة حور الطين وحور العين قوبلت هذه الكلمة بتعجب كثير من الحاضرين للمطابقة الجميلة بين جزءيها، وارجو ألا يظن القارىء الكريم ان مصدر الجمال فيها عن الحور فحسب!!
فهذه الكلمة تتكرر في المغرب العربي فلا تثير التعجب لانها معهودة النطق عندهم ولكنها اثارت التعجب في مكان آخر لم يعهد تكرار النطق بها، وهكذا كلمات اخرى تنطق بها في المشرق فلا تستوقف احداً ولكن المتذوقين من المغرب العربي يحتفون بها ويسجلونها في دفاترهم للرجوع اليها اعجاباً وتذوقاً وهكذا..
والمثال الذي سأضربه هنا للتدليل على اختلاف المقصود بالكلمة باختلاف جغرافيتها من حيث المكان هو كلمة كذب فالمعنى المقصود المتبادر للذهن منها هو تعمد الكذب الذي هو من احط الخصال التي لابد ان يتنزه عنها المسلم الصادق، لكنها وردت في وصف اناس من اصدق المسلمين وهل هناك اصدق من الصحابة رضي الله عنهم؟ فكان من الضرورة البحث عن تفسير صحيح لواقع الحال، وعند البحث تبين ان كلمة كذب تطلق في الحجاز فيراد بها معنى آخر غير الكذب الاصطلاحي.
كلمة كذب تكررت كثيراً في التاريخ الاسلامي، وقالها بعض الصحابة لبعض رضي الله عنهم فهل يقصدون بها المعنى الاصطلاحي للكذب؟ هنا مثار اسئلة تعجبية وخطورتها انها ذات صلة بالعقيدة تأسيساً على ان الصدق يهدي الى البر والجنة وان الكذب يهدي الى الفجور والنار كما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في احاديث صحيحة، والاخطر انه لا يجيب على هذه الاسلة اجابة صحيحة وشافية سوى العالم بجغرافية الكلمة ومن هنا تظهر اهمية ما ادعو اليه من ضرورة العلم بهذه الجغرافية ودراستها علمياً وبحثياً ودعوياً.
عندما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجاء عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وهو ينزف يواسيه ويذكر محاسنه ويعدد ما اعد الله للمجوسي الغادر الذي قتله قال عمر: كذبت ولكنك واباك جئتما بهذا العلج وامثاله الى جزيرة العرب. ولم تذكر المصادر التاريخية ان ابن عباس اعترض على كلمات عمر او غضب منها برغم انها تصفه بالكذب، فما السر ياترى؟
اجاب على هذا السؤال ابن تيمية رحمه الله في كتابه الاستغاثة المعروف بالرد على البكري مشيراً الى ان كذب الحجازية تأتي بمعنى اخطأ فيكون مقصود عمر بكلمته الموجهة لابن عباس هو كذبت اي اخطأت فلا محذور ولا تعيير فيها حين عرف المقصود منها.
وضرب ابن تيمية امثلة على ان المقصود بكذب الحجازية هو الخطأ لا الكذب ذاته فقال: الخبر الذي لا يطابق مخبره اذا كان صاحبه غير مجتهد يسمى كذباً ويذم على ذلك وان اعتقد صدق نفسه كما في الصحيح ان سبيعة الاسلمية لما ذكرت للنبي صلى عليه وسلم ان ابا السنابل قال لها لما مات زوجها وهي حامل فولدت: ماانت بناكحة حتى تمر عليك اربعة اشهر وعشراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم:كذب ابو السنابل.
ومنه ما جاء في الصحيح ان سعد بن عبادة قال يوم فتح مكة: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة، فقال ذلك ابو سفيان للنبي فقال صلى الله عليه وسلم: كذب سعد، بل اليوم يوم يعظم فيه الكعبة.
ومنه قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما قيل له: ان ابا محمد زعم ان الوتر واجب، فقال: كذب ابو محمد.
فكلمة كذب في استشهادات شيخ الاسلام كلها بمعنى اخطأ والا فانه يستحيل ان يصف النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من اصدق أصحابه الذين اثنى عليهم كثيراً بالكذب المفضي الى الفجور والنار.
بل ان تأثير جغرافية المكان في الكلمة ابعد مما تتصوره اخي القارئ والدليل على ذلك ما اورده ابن منظور في مادة دفأ في كتابه لسان العرب من انه جيء للنبي صلى الله عليه وسلم بأسير يرعد برداً فقال للقوم: اذهبوا فأدفوه فذهبوا به فقتلوه فوداه النبي صلى الله عليه وسلم.
واوضح ابن منظور مصدر اللبس مشيراً الى ان معنى فأدفوه في لغة قريش اي ادفئوه من البرد ولكنها في لغة اهل اليمن اي اقتلوه وهكذا فهم الصحابة الذين امروا بادفائه. والحديث لم اعثر عليه في الكتب التسعة وسمعت من نسبه لخالد ابن الوليد رضي الله عنه.
والمثال الذي سوف اضربه للدلالة على اختلاف المقصود بالكلمة باختلاف جغرافيتها من حيث الفكر هو ما ورد في قول الله عز وجل: يا ايها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا البقرة 104.
فقد نهى الله عز وجل المؤمنين عن قول كلمة راعنا برغم ان المقصود اللغوي المجرد منها بمعنى المراعاة والتخيف لا محذور فيه ولكن النهي كما اورده ابن كثير رحمه الله في تفسيره جاء بسبب المقصود منها في الفكر اليهودي وهو الاشارة الى الرعونة بقصد التعيير وانتقاص المؤمنين، فأمرهم الله بقول كلمة لا لبس فيها وتؤدي المقصود وهي كلمة انظرنا.
والامثلة على تأثير جغرافية الكلمة في المقصود منها وتأثيرها كثيرة لا يمكن حصرها في صفحات قليلة، بل هي حرية بدراسات علمية جادة تهدف الى الاستقصاء والتحليل، ولاسيما مع ظهور مصطلحات حديثة يختلف مقصود الكلمة باختلاف جغرافيتها وابرز مثال على ذلك كلمات: الارهاب والتزمت والاصولية والديمقراطية وغيرها كثير.
والامل ان يكون هذا المقال مفتاحاً لهذه الدراسات المأمولة في مجالات علمية مختلفة، مثل تأثير جغرافية الكلمة في ثقافة الداعية وسلوكه وخطابه، وتأثير جغرافية الكلمة في البناء الاجتماعي وفي البناء الثقافي وفي البناء الاقتصادي وهكذا..
هذا وبالله التوفيق
للتواصلalsmariibrahim@hotmail.com
|
|
|
|
|