|
| الثقافية
كنت قد تحدثت عن الكتاب وصلتي به اقتناءً وتأليفاً، وعن المكتبات وصلتي بها.
واليوم اتحدث عن الكتاب من زوايا اخرى لا تبعد عن تلك ولكنها قد تختلف عنها نوع اختلاف وبخاصة ما قد تحدث عنه من امر الكتاب جودةً ورداةً ووصفاً واهداءً واستعارةً او سرقة، وما الى ذلك من شؤون الكتاب واحوال الكاتبين. ومثل هذا الحديث ذو شجون قد ترد فيه النادرة المستملحة وقد ترد فيه الحكاية السمجة او الحديث العادي الذي لا يثير اعجابا ولا استثماجاً وذلك شأن كل حديث تكون الذات منطلقه ومعاده، فمن اين ابدآ، وبأي حديث احدث والكتاب كل شيء بالنسبة الي لكوني اجد فيه الفائدة والسلوى، ولذا فانا حين اعجب بالكتاب اشتري منه نسختين على الاقل.
فمثلا المغني والشرح الكبير عندي منه ثلاث نسخ ومن الانصاف نسختان وكذا صحيح البخاري وشرحه فتح الباري والعمدة لابن رشيق والصناعتين والاغاني والقاموس المحيط وهكذا.
وانا لست بدعاً في ذلك فالاسلاف كانت لهم في ذلك حكايات وعجائب منها ما يروى ان ابا علي القالي كان يملك نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد كان يعجب بها كثيراً، فلما افتقر وجاع عياله باعها بخمسين قطعة من الذهب ولكنه قبل ان يسلمها الى مشتريها كتب عليها ابياتا منها:
|
نعمت بها عشرين عاما وبعتها
وقد طال وجدي بعدها وحنين
وما كان ظني انني سأبيعها
ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن نعجز وافتقار وصبية
صغار عليهم تستهل شؤوني |
الى آخر ماقال.
وكان المشتري ميسور الحال وذا احساس مرهف فلما قرأ الابيات اعادها الى الرجل مصحوبة بمثل ثمنها من الذهب، فأين مثل هذا لأكتب له على كل كتاب عندي.
وحين هجا نفطويه بن دريد وكلاهما ازدي لم يستطع ذم الكتاب نفسه، بل زعم انه )كتاب العين( غير ان ابن دريد غير فيه ورتبه ترتيباً جديداً ثم ادعاه لنفسه وفي ذلك يقول نفطويه:
|
ابن دريد بقرة
وفيه عي وشرة
ويدعى لحمقه
حفظ كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين ال
انه قد غيره |
وقد رد عليه ابن دريد بأبيات منها قوله:
|
احرقه الله بنصف اسمه
وصير الباقي سراخاً عليه |
وقد يثير حب الرجل الكتاب شيئاً من غيرة عند المرأة.
حدثوا ان رجلا كان مقبلا على كتاب العين محباً له يقضي معه جل وقته.
وفي يوم عاد من المسجد ووجد بيته غارقا في الدخان فأسرع مهرولا وهو يصيح، ما الخبر؟ فتلقته زوجته وهي تقول لا شيء اطمئن ماهو الا ضرتي احرقتها فصاح ماهي؟ فقالت كتاب العين، فثارت ثائرته ورجع الى المسجد ليطلقها على يد استاذه الذي خفف من غضبه بقوله اما الكتاب فعندي لك منه نسخة بدلا من تلك، ولكن قل لي من سوف يقدم لك بديلا لزوجتك. ثم انك الجاني الم تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم )وان لاهلك عليك حقا(.
انا سأعطيك الكتاب ولكن بشرط اولا الا تطلق زوجتك والثاني ان تعلم ان لها عليك حقاً فلتكن صحبتك الكتاب في اطراف النهار حيث تكون المرأة مشغولة ببيتها.
ذلك طرف من اخبار الكتاب الذي كانت منبة الجاحظ في حبه، فهل لي معه من خبر؟
نعم، ولكن ليس من باب ما ذكرته مع اني كنت اوثر الكتاب على العشا وعلى الثوب الجديد في يوم العيد، في ايام كان الشبان فيه يتفاخرون بلبس جديد في يوم العيد وبلغ من حب الكتاب ان كان لدي من الكتاب اكثر من مائة ايام ان كنت فيما يقابل الاولى متوسط هذه الايام، ولكن هل استطعت الاحتفاظ بكل تلك الكتب.
الواقعه ان مالدي منها قليل، فقد دأبت عليها الاستعارة والسرقة وان بقي منها مثل كتاب العمدة ومقدمة ابن خلدون وبعض كتب اخرى قليلة، على اني كنت احرص على تعويض ما يفقد منها بالشراء مثل تاريخ الادب لاحمد حسن الزيات.
وانا ايدك الله حذر من الاعارة ومع ذلك فقدت جملة من كتبي بسببها.. منها مخطوط في شرح )بانت سعاد( ومنها التوضيح في الجمع بين المقنع والتنكيح وكتب اخرى كثيرة استعارها اخوان لقوا ربهم فأشهد الله على مسامحتهم والترحم عليهم.
ومن حكاياتي مع الكتب انه كان عندي نسختان من فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية وكانت احداهما عن يمين مكتبي في المنزل لكثرة رجوعي اليها.
وفي يوم مددت يدي لاستخرج الجزء الثامن عشر ففوجئت بأن الارض قد اتلفته فأمرت من عندي باخراج اجزاء الكتاب وما حوله فكان من العجب ان الارض قد اختارته من بين الكتب فرثيت ذلك الكتاب بقصيدة نشرت في احدى صحفنا منها.
على ان معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ عوضني عنها بنسخة مجلدة، ولم تكن الاولى كذلك.
وانا حريص كل الحرص على ان يكون الكتاب كاملا، ولذا اكره خرم الكتاب، ومع ذلك فقد منيت بشيء من هذا.
من ذلك اني اشتريت من محمد المؤيد صاحب مكتبة المؤيد في الطائف كتاب شرح المفصل لابن يعيش فلما فتشت الكتاب في البيت وجدته ناقصا فذهبت الى صاحبنا فاذا به يبتدرني فيهدي اليّ كتاب الزوائد طبعة هندية قديمة فذكرت له ما اتى بي وهو ان المجلد الخامس المشتمل على الجزأين التاسع والعاشر ناقص من النسخة التي اشتريتها فقال: سوف يصلك حتى وان كنت في الرياض، ولم يصلني شيء على الرغم من مضي ثمانية وثلاثين عاماً على شرائي ذلك الكتاب الذي كلما اردت الرجوع اليه في مسألة تذكرت انه مخزوم فعدلت عنه الى التصريح او سواه.
وكنت وكلت الى شخصين شراء كتب لي ففعلا واشتريا اكثر من الف عنوان غير اني عندما عدت بها الى الرياض وجدت ان فيها ماهو ناقص مثل )النجوم الزاهرة في اخبار مصر والقاهرة( حيث لم اجد منه سوى اثني عشر مجلداً.
وبالمناسبة اقول لابنائنا الشباب ان الكتاب لا يخسر بل تزيد قيمته ويرتفع ثمنه كلما قدم.
واضرب هنا مثلا ببعض كتب.
فقد اشتريت كتاب )التوفيقات الالهية( بعشرة جنيهات مصرية.
ثم طلبه مني احد اخواننا الذين يدرسون في الولايات المتحدة اسمه سعيد، ونسيت بقية الاسم فأعطيته اياه ثم بحثت عن الكتاب نفسه فلم اجد الا بخمسة واربعين جنيهاً مصرياً فانظر الفرق، وكان ذلك قبل 30 عاما وكنت اذاك في القاهرة.
واشتريت معجم الادباء بعشرة جنيهات ثم بحثت عنه لأحد الاخوان فلم اجده، الا بمائةجنيه وهكذا.
الكتاب اذاً اشرف واغلى من الذهب لكون الذهب يتردد بين الارتفاع والانخفاض اما الكتاب فما نقصت قيمته ولا ثمنه، لكون الكتاب ربما لم يطبع الا مرة واحدة كمثل حاشية الدسوقي على تلخيص المفتاح مثلا.
قد يقول قائل ان عالم الكمبيوتر والانترنيت سوف يطوي قيمة الكتاب وسيجعله مبتذلا كاسداً.
وهذا قول غير صحيح لاسباب يعرفها المتعاملون مع هذه الوسائل انا لا انكر فائدة هذه الوسائل الجديدة، لكني متأكد من عدم اغنائها عن الكتاب مهما بلغ بها التقدم.
لكن هل كتاب جدير بالاقتناء والاحتفاظ به؟
كلا، فهناك من الكتب ماهو كالصحيفة من كونها زادا ثقافيا يوميا، قد تحمل ما يستحق الحفظ ولكن الطابع العالم هو ذاك، وفي الكتب ماهو كذلك ايضا بل ان منها مالا يستحق ما تقضيه في قراءته من وقت.
قد تختلف الاهتمامات، بل انها متباينة فعلا لكن هذا لا يغير من الامر شيئاً، فأنت مثلا تعنى بكتب الهندسة والكمبيوتر في حين اني مثلا بكتب الدين واللغة.
لكن موقفنا من مثل دعاء الكروان اوالمعذبون لا يختلف الا ان يكون احدنا معنياً بتاريخ القصة واساليب تطورها فقد تكفي نبذة يسجلها عن الكتاب.
ومع ذلك فأنت لا تستطيع نفي الفائدة في اي كتاب مهما بلغ من الضآلة.
سئل مثقف انجليزي فقير عن مصدر ثقافته مع كونه لا يملك مايشتري به كتبا ولا صحيفة فقال: كنت اقرأ كل مايصل الى يدي حتى قطعة الجريدة التي يلف فيها بائع الحلوى القطعة التي اشتريها منه،وقد اجد قطعة من جريدة ملقاة فآخذها واقرأ ما فيها ثم القيها.
على ان هذا القول لا يصح اخذه على اطلاقه اذ ان هناك من الكتب مالا تجوز قراءته الا لمن يريد كشف باطله وتعرية فساده ورد شبهه كمثل القصص الماجن وكذا الشعر الماجن وكل ما يشتمل على الحاد ومنابذة للمفاهيم الاسلامية والتي تعمد الى تشويه صورة الاسلام او المجتمع المسلم اونحو ذلك مما يشتمل على اي نوع من الفساد وذلك كثير في مؤلفات العصر الحديث ابداعاً ووصفاً وتأليفاً شحنت بها ارفف المكتبات فبعثرت بها الاهتمامات وخدع بها كثيرون.
والاعجب من ذلك ان يتولى بعض من المثقفين الترويج لها بما يقدمونه عنها من احاديث ودراسات تغرى بها كثيرين حتى من بعض العارقين، فعلى هؤلاء مثل ماعلى مؤلفيها من اثم ومسؤولية، بل ربما كان علمهم اكثر خطورة وبخاصة اذا كانوا موضع الثقة في مجتمعهم فيضلون ويضلون عياذاً بالله من ان نكون قدوة سوء وضلال.وخلاصة القول ان الكتاب صديق صدوق، وصاحب لا يمل ولا يمل تزيد قيمته ويرتفع ثمنه مع مرور الايام والسنين، وفيه زاد لا يزود به سواه من وسائل المعرفة والثقافة الانسانية بعامة.
وهو تجارة ان اردته كذلك، وان اردته فنعم الزينة.
يروى ان عالما دخل سوق الكتب والوراقين يبحث عن كتاب، فوجدهم ينادون عليه في المزاد فعزم على شرائه وظل يزاود فيه حتى بلغ به احد الرجال مبلغاً لا يقوى عليه ذلك العالم فلما ظفر به ذلك الرجل تبعه العالم للتعرف عليه لانه غير معروف في مجالس العلماء، فلما سأله عن سر حرصه على هذا الكتاب قال: )ان حجمه، وجلده وشكله بعامة يناسب فراغا في المكتبة التي ازين بها بيتي(.
فرجع العالم وقد زاد ذلك حسرته حسرات ان يظفر بالكتاب من يريده زينة ويحرم منه من يريده زاداً علمياً.
ولكن هل مثل هذا العمل مكروه؟
كلا، فالتزين بالكتاب خير من التزيين بالصور والتماثيل بل وسائر ادوات الزينة. ولكن اذا اجتمعت الزينة والاستفادة كان ذلك اتم واجمل.
ولكن هل قارئ اليوم كقارىء الامس؟ ذلك موضوع يحتاج منا الى وقفة اخرى ومع ذلك اقول يجب علينا اذا اردنا ايجاد القارىء الجيد اولا ان نحرص على توافر الكتاب الجيد، ثانياً ان نعود اطفالنا منذ الصغر على صحبة الكتاب وعلى طرق الاستفادة منه، وقد قيل:
|
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده ابوه |
|
|
|
|
|
