وبعد .. نقرأ ونسمع بين الفينة والاخرى غياب الشعر عن الساحة الادبية، ومزاحمة الرواية منكبه بل حلت محله، وربما يكون لهذا الادعاء شيء من الصحة في ظل ما يكتبه بعض شعراء الساحة الادبية اليوم، وما يصدرونه من دواوين تحمل في طياتها افكاراً مكررة، وصوراً مبتذلة، واساليب هشة لا ترقى الى اساليب الاول.
وفي اثناء جولاتي القرائية في انتاج شعرائنا توقفت كثيراً امام ديوان الشاعر المبدع/ حسين عجيان العروي «قصائدي انتظار مالا ينتظر».
ذلك الديوان المتواضع في مساحته، الكبير في نبضه كما قال عنه الاستاذ/ عبدالفتاح ابو مدين في مقدمة الديوان.
فالديوان صورة شاعرية متناسقة تكاد الفاظها تنطق بجمالها، بل كل قصيدة رسمت بريشة لسانية ومقدرة بيانية، تضوع كلماتها برائحة العرار، وتتوشح بأصالة النخيل، تحمل افكاراً شريفة راقية وذوقاً رفيعاً، وبعداً مكانياً وزمانياً وعمقاً لغوياً وصوراً مبتكرة ترقى بذوق القارى وحسه الادبي.
قد يبدع شاعر في فن من الفنون الادبية كالغزل والمديح وشعر المناسبات.. ولكن الاختبار الحقيقي لابداع الشعراء هوفن الوصف، وهذا ماينوء به ديوان العروي فهو يصور لواعجه واشجانه وآلامه واحزانه فتجد صورة الليل ونجومه الساهرة الهامسة، البروق السارية والسحب المسافرة، البيد برمالها وخبْتها وشيحها وعرارها، تجد القصيدة وطناً بل الحرف وطناً يحمل احزانه ويخفف رذاذه آلامه اذا ما قست عليه الحياة:
سأصوغ حزني موطناً من احرف
اغفو عليه اذا قست اقداري
انا راحل.. والليل دربي.. انه
خيرن.. وأرفق بالصديق الساري
فالقصيدة عند شاعرنا صورة فنية متكاملة، وربما حمل البيت اكثر من صورة:
لا لون لي..انني ماء وبي ظمأ
والطين يزرع اعماقي.. ويفتخر
عدد من الظواهر الفنية والرمزية التي يحملها ديوان الشاعر تستوقف تأملك ودراستك المتأنية، سواءً الصور المتلاحقة في القصيدة بل في البيت الواحد، ام الموسيقى المحببة المبتدئية بتناسق الحروف، وتآلف الكلمات فالعبارات المتموسقة فالقافية الناطقة المناسبة للمعنى، الامطار والسحب المسافرة. الماضي الجيد والحاضر الحزين الالحان الرمزية الشفافة، اصالة المعنى وحداثة الصور وابتكارها، والازدواجية التي تتفجر في عمقه احرفاً شقيّة في عصر يموج بالمفارقات.
صديقةُ، اعماقي ازدواج منافقٌ
)لي الله، مما يكتب الملكانِ(
دعيني، فهذا ) يا صديقة( شاطئي
سأبقى هنا حتى يعود أواني
وفي هذه العجالة التعريفية سأسلط الضوء على بعض قصائد الديوان بشيء من الايجاز يفتح ابوابه امام القارى العزيز، ويعرِّف به، وان كان شاعرنا اشهر من علم على رأسه نار، ولسبب مالم يأخذ الديوان مكانه في قلوب محبي الشعر العربي الاصيل.
ولعل القارئ لهذا الديوان يلمح تلك الظواهر الفنية والرمزية التي اشرنا اليها آنفاً فالنخل معشوق الصحراء الذي تزدان به بلادنا العزيزة يشغل مساحة كبيرة في قصائد الديوان، لما له من مكانة عظيمة في قلب الشاعر وفكره، ولما يرمز له من ماض مجيد، ومعنى حميد:
فاقرئيني على «رؤاك» عراراً
وبشاماً.. وانهراً من طلول
مازجيني «اقامة» واغتراباً
ولك العشق.. يا شموخ النخيل
بيتان ينبثقان من بيئة الشاعر لوناً واصالة، يزينهما جمال بلا غي يتمثل في التقديم والتأخير، بل يكاد عجز البيت الثاني يصرخ مجسداً عاطفة الشاعر وحبه وعشقه للنخيل. هذا هو النخل رمز الاصالة والشموخ والعزة والكرم، نقرأ الماضي يفوح اصالة من سعفاته بعد ان تشرب تعب الاجداد. يقول متذكراً في طيبة طفولته، متفرداً بفتوّته:
يا طيبة الحب.. هذا شاعرٌ غرد
أتى يغنّيك يا شعر الفتى الغردِ
الآن في جبهتي اقصوصة ودمي
آثار قافلة راحت ولم تعدِ
معشوقة النخل يبقى الطفل مزرعة
موشومة.. وبقايا الوشم فوق يدِ
ما اجملها من ابيات! سبك قوي وصياغة محكمة ملؤها الرمز والايحاء:
وهل ينبت الخطيَّ الا وشيجه
وتغرس الا في منابتها النخل
نتابع مع الشاعر وهو يغني لمعشوقة النخل يخاطبها بهذا السؤال الاستفهامي مطنباً بجملة اعتراضية لا يخفى جمالهما على متذوقي الشعر البلاغي:
هل تذكرين وما بالدار من احد
طفلاً خصيباً يضم النخل في كبد
من ذكريات الكينونة الاولى.. رسالة عاطفية ابوية يحفها الجلال والتقدير تقف امامها مكبراً قائلها، فوالده يرحمه الله مرج تقوى والنخيل رؤى التخيل والذكريات التي لا تنسى والآلام الفطرية:
ابي لا تسألنَّ فان وجهي
تغيّب عن ملامحه العرارُ
اتذكر يا ابي والليل طفل
واحلام معتَّقة تدارُ
نخيلاً.. وانطفاءات.. وخبتاً
وحرفاً مقمراً.. دمه احتضارُ
الى ان يقول متذكراً تلك الحال، وكيف اقفرت الديار، وهجرها السمار بأسلوب انشائي ناطق:
غريب يا مكان أأنت نخلٌ؟!!
أأنت قصيدة؟ زمن يزارُ؟
وهو يحن الى الماضي الاصيل يتذكر الاجداد وتعبهم، فالنخلة رمز لحياتهم وكفاحهم وسماتهم تظل متفردة بشموخها، صامدة تصارع مخاوف الصحراء:
نقوشهم نخلة سمراء مفردة
بالرمل.. يغمرها بالآل منعطفُ
تشربت تعب الاجداد واصطبحتْ
من الثرى كالاماني البيض ما نزفوا
ليت الألى غادروا ما غادروا ابداً
أوليتهم ودعوني حينما انصرفوا
يتألم المرء وتحرقه الحسرات عندما يقارن واقع قومه بماضيهم المجيد:
كتبت دماً ارثى سحاباً مسافراً
وصوتي صدى في مجد حرفي ينثر
وفي نفس عزيزة ينشطر عن واقعه ليلحق بشرف من سبقوه في ربط شاعري محكم:
اسير وتطوي صفحة العمر خطوتي
ومائي قليل، والمسافات أبحر
وان قسا عليه الزمان، وجفاه الاصيحاب عاد يستمطر مهجته، ليزرع وطنه. يقول في بيت مليء بالعاطفة السريعة التي تلمح فيها الافعال المتلاحقة والايقاع السريع:
اخالجها احثو اضم شعورها
اعب نداها حينما الريح تعبر
النخيل سمة في ديوانه حتى وهو يعاتب اصدقاءه:
صديقي تذكر رب ذكري تعيدني
اليك وفي لوني نخيل وانهر
بل اصبح النخيل وشاحاً يتسربل به:
ثيابي نخيل والقصائد موطنٌ
وبعضي جحيم في نعيمي يرفلُ
النخيل ظاهرة شامخة ترفل في قصائد الديوان وتتحنّف في قلب الشاعر ونفسه، ولنترك معشوق الصحراء يغفو على رمال الديوان ونعرّج على الاصالة الغنية، والقصائد المتفردة:
بعض الصبابة ذلٌّ فالتمس طرقاً
نارية جنة الآثام تجتنبُ
«وقوف على طلل» قصيدة تجسد موقف الشاعر من المدينة فعندما تخنقه بحياتها الصاخبة وقيمها المتهالكة، بجدرانها الاسمنتية وارصفتها الاجبارية ينشد راحته نفثات مصدور في منبت القيم والمبادئ الاصيلة يستنشق عبيرها ويتبرعم في اغصان عرارها ويمتزج لوناً مع رمال خبتها، واشجارها ونبتها.