| عزيزتـي الجزيرة
أول الأمور أصعبها، وخير الأمور أوسطها، وشر الأمور محدثاتها.
بداية تذكر المرء لما يدور من حوله تبدأ من سن مبكرة وفي هذه المرحلة يطلق بعض علماء الاجتماع عليه «حيوان اجتماعي» بسبب تعلق الطفل بأمه مصدر غذائه كما هو حال باقي مخلوقات الله عز وجل، وتعتبر هذه الفترة من أهم الفترات التي يمربها الجنس البشري باستثناء أبينا وأمنا آدم وحواء وفي هذه الفترة يتعلم من ذويه ما يتسلح به في مركب الحياة.
مرحلة الطفولة أو ما يطلق عليها علماء الغرب CHI LDHOOD من أمتع فترات نمو الإنسان حيث يتذكر ما فعله من مواقف طريفة وأخرى حزينة وماتلقاه من نقش في ذهنه أخلاقاً وعلماً وعملاً.
قد يتذكر الكثير منا عندما أراد قيادة السيارة وأحلامه التي تلقيه يميناً ويساراً وخياله الذي يجمح به في أنحاء المعمورة وماذا سيفعل عندما يبلغ سناً تسمح له بقيادة السيارة وأفكار متزاحمة في عقله الصغير وفجأة يقطع خياله صرخة أبيه حيث يقول له «انزل من السيارة ياولد» ومع ذلك قد يصمم البعض على قيادة السيارة مهما كلف الأمر ويصبح ذلك حلماً لابد أن يحققه.
ومع مرور السنين يبلغ الطفل ويخرج من مفهومنا العربي «ورع» إلى مرحلة الشباب التي في غالبها يبحث عن المغامرة والاحتكاك مع أقرانه والتنافس معهم في الكثير من الأمور وفي غالبها تشجيع ناد رياضي يفرح لفوزه ويحزن لخسارته إلى درجة إن البعض يبكي بحرقة وكأن أحداً من أقاربه أصابه مكروه والبعض الآخر يفتعل المشاجرات وآخرون يعبرون عن فرحتهم بطرق ابتكروها مثل «التفحيط». إن هذه الفترة تعتبر من أصعب الفترات التي تمر على الوالدين خصوصاً في تربية الأولاد وتمر هذه المرحلة عليهما بطيئة مثلما تقطع النملة الصحراء بكل بطء وحذر وتشبه هذه المرحلة «عنق الزجاجة» التي يخرج منها الفتى إلى دنيا لم يعهدها من قبل وللوهلة الأولى يراها غابة موحشة صعبة في دروبها ومسالكها ويظهر دور الأب في نصح ابنه كما فعل لقمان مع ابنه، وفي هذه المرحلة يستقل المرء عن ذويه ويعيش مرحلة يمتلك فيها قراره وحريته في تصرفاته. وبعد مرور عقد من الزمن يصبح الشخص في مرحلة النضوج ويحفظ نفسه ويكمل نصف دينه بالزواج وبعد أن يمن الله عليه بنعمة الأطفال تعود الدنيا إلى سابق عهدها.
وفي لحظة من اللحظات التي تمر على الإنسان التي يسترجع فيها ذكرياته ومواقفه التي ماتزال ملتصقة في ذهنه من مواقف وأحداث يراها وكأنه يعايشها وليست من بقايا ذكرياته وينظر بمقلتيه في عيون والديه في أوقات فرحه وحزنه ومامدى حبهما له وحرصهما على مصلحته وتلبية رغباته قدر الإمكان وعندها يدرك كم كانا يحملانه في أعينهما ويفرحان لفرحه ويستاءان لحزنه وكأن العالم قد أظلم في أعينهما.
وفي حياتنا التي نعيشها وبكل ما تحمله من صخب وزحام ولهاث خلف الأموال وتلبية رغبات هوى النفس هناك فئة صغيرة دورها كبير وفاعل لمن يراهم بأعين الصلاح والتقوى والبعض الآخر يجزم بأن دورهم قد انتهى ولا يستطيعون إعطاء المزيد وللأسف هذه النظرة لهم بدأت تنتشر بين فئات كثيرة من الناس، هذه الفئة المغلوبة على أمرها هما الوالدان عند الكبر وعجزهما عن قضاء حاجاتهما بنفسيهما خاصة الاحتياجات الطبيعية مثل «دخول الحمام» الأكل والشرب وارتداء ملابسهم بأنفسهم، والأمثلة على ذلك كثيرة ولقد استمعت إلى أحد الأشرطة التي تروي فيها إحدى الأمهات ماحصل لها مع ابنها حيث قالت:
تزوج ابني من فتاة وعشنا في منزل واحد أنا وابني وزوجته ومع مرور الزمن لم تتحمل زوجة ابني معاملتي والاعتناء بي وفي إحدى الليالي اضطررت للذهاب إلى المستشفى فانتهزت زوجة ابني الفرصة وأمرت ابني الوحيد ان يتخلص مني وفي منتصف الطريق انزلني في مكان مهجور وابلغني بأنهم سوف ينادون على اسمي. قال سوف أذهب لأركن السيارة وبعد مرور أكثر من ساعة اقترب مني رجل أمن وسألني ماذا أفعل هنا؟ أجبته بكل بساطة «احتري دوري» وكانت هذه هي المفاجأة التي نزلت عليه كالصاعقة حيث قال لي رجل الأمن: لايوجد هنا مستشفى بل مقبرة «العود» وعندها طلبت من رجل الأمن أن يأخذني إلى أقرب مركز للعناية بكبار السن، وكانت هذه المفاجأة رغم المأساة التي يقف لها شعر الرأس وتبكي لها القلوب قبل العيون هو انها رغم ما فعل بها ابنها وزوجته دعت الله ان يوفقه في حياته ويرزقه ويمد في عمره.
قلب الأم الذي لا مقياس له ولا حجم، تحنو على ابنائها مهما بلغوا من العمر ومهما فعلوا بها وأياً كانت معاملتهم لها فإنها تحبهم وتتمنى سعادتهم في الدنيا والآخرة حتى لو على حسابها وصحتها.
وهذه قصة حقيقية شهدتها بنفسي ومازلت أعيش معاناة صاحبها حيث تتلخص القصة بأن أباً للكثير من الأبناء والأحفاد يرقد في أحد المستشفيات المشهورة منذ ما يقارب 4 سنوات ولم يتعطف عليه أحد من أقاربه بزيارته ولو خمس دقائق للاطمئنان على حاله.
وفي آخر مرة رأيته وسألت عنه بعض الموظفين في المستشفى: هل زاره أحد منذ مدة؟ وكان الجواب كالمعتاد لا. ولايؤنس وحدته سوى بعض الأجانب العاملين في المستشفى وبعض الأطباء الذين يمرون عليه مرور الكرام.
هذه الفئة المغلوبة على أمرها ليس لها بعد الله سوى أبنائهم وذويهم للاهتمام بأمورهم ولكن أصبح الزمان غير الزمان وجاء جيل يخلف جيلاً وتغيرت الأنفس ولم يستطع الابن الاهتمام بوالديه بل لقد ضاق منهما ذرعاً ولم ينظر إلى نفسه أين كان وكيف أصبح وماذا فعل له أبواه وكم تحمل والده عناء لقمة العيش ليوفر له طلباته وكم سهرت أمه عليه حين المرض حتى يتعافى وكم فرحوا لفرحه وحزنوا لحزنه؟! ولكن ما أشد أنانية النفس التي تعيش لنفسها فقط وتحب أن تهب من الحياة بمختلف مشاربها وألوانها ولاتفكر بغيرها وسعادتهم ورؤية الابتهاج في أعينهم.
وأخيراً فإن هذين المثالين غريبان عن مجتمعنا المسلم وتعاليم الدين الحنيف وما أمر به الرسول )صلى الله عليه وسلم( وفي البيوت أسرار قد تكون قصصا تتعدى الخيال في بعضها وأخرى محزنة ينفطر لها القلب وتظهر تحجر قلب الأبناء على والديهم.
ولقد صدق قائل الحكمة:
«قلبي على ابني انفطر وقلب ولدي عليّ حجر»
غازي محمد القحطاني
|
|
|
|
|