| عزيزتـي الجزيرة
في العمر محطات نمر عليها ونتوقف عندها، فمنا من يتغذى من هذه الوقفات وينفض غباراً قد أصابه من اثر الطريق ويدير رأسه ملتفتا إلى الوراء لكي يرى المسافات التي قطعها ويكون صريحاً مع نفسه، ومنا من يمر على هذه المحطات الزمنية لكنه لا يلقي لها بالا وإنما همه قطع المسافات في طريقه دون استفادة بما يمر عليه. ولعل بين تلك المحطات أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، إنها أيام عشرة فقط لكن فيها ما يجعلها كبيرة، إنها أيام محبوبة إلى الرحمن. والأعمال الصالحة فيها زاكية عند الله وعظيمة الأجر.
عن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أيام، العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.
قد يظن البعض ان مفهوم العمل الصالح يدور فقط مع الصلاة تهجدا أو نوافل أو مع الصيام أو الصدقة فيحصرها من خلال نظرته بأنماط معينة من العبادة أو على أشخاص أقدر منه علما أو مالاً أو غير ذلك.
ولو رجعنا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه عليه السلام قد أطلق ولم يقيد العمل وإنما وصفه بأنه عمل صالح فما معنى هذا.
يقول ابن منظور كما في اللسان «الصلاح ضد الفساد» ويقول ابن فارس في المعجم الصاد واللام والحاء أصل واحد يدل على خلاف الفساد. وفي المعجم الوسيط مامعناه «الصلاح ما كان نافعاً».
فعلى هذه المعاني يتبين لنا شيء من الدائرة التي يدور فيها معنى العمل الصالح، فكل عمل فيه صلاح لنفسك وتهذيب لها أو إصلاح يتعدى إلى غيرك فهو عمل صالح. وبعد هذه الرؤية يتبين لنا اتساع فلك العمل الصالح وعدم حصره في عبادات معينة. ومن خلال هذه المعرفة تزيد عند الفرد روح المشاركة والدخول في هذا الميدان لأنه ليس محدودا بأشخاص حازوا قصب السبق في مجال معين، وكذلك ليس محدودا بعبادات معينة قد يكون الإنسان قد فتح له في غيرها فيرى أن هذه أمور صعبة تشق عليه.
إذن فالاعمال الصالحة مشارب عدة نستطيع الورود فيها من خلال معايشتنا لحياتنا اليومية. فالموظف في عمله يستطيع كسب عمل صالح من خلال وظيفته فتبسمه في وجوه مراجعية عمل صالح وصدقة وتيسيره للأمور في العمل وتسهيله المعاملات على الآخرين مع اللطف واللين وسماحة البال عمل صالح وهو من حسن الخلق وشفاعته للناس في الخير واختصاره الطريق لهم عمل صالح مفيد يؤجر عليه.
والتاجر له مجالاته من العمل الصالح فالقرض الحسن وتكراره والوفاء بالعهد والصدق في التعامل كل هذا من العمل الصالح. والصحفي في صدق ما ينقله من أخبار وتجرده في تحليلاته إنما يقوم بعمل صالح نافع.. وهكذا في كثير من المجالات!!
وحتى الذي لايملك مالا ولا وظيفة إما لفقر وإما لكبر أو ضعف فهناك أعمال صالحة يستطيع أن يجنيها فالذكر عمل سهل ويسير ولايكلف جهدا وهو عمل صالح وإن أحببت أن يتغذى هذا الفعل إلى غيرك وينتفع الناس بك فإليك ما كان يفعله ابن عمر وأبو هريرة فقد كانا رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ذكره البخاري معلقا مجزوما به.
بل وحتى إذا ضعفت عن بعض العمل وعجزت عنه فكف شرك عن الناس فإنك بهذا تعمل صالحا تؤجر عليه لكن مع النية والقصد لا مع الغفلة والذهول كما نقل ذلك ابن حجر عن القرطبي ملخصاً ففي المتفق عليه «عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله قال، قلت أي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا قال قلت فإن لم أفعل قال تعين صانعاً أو تصنع لأخرق قال قلت يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل قال تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك».
وهكذا قد يختلف العمل الصالح باختلاف الأشخاص وكذلك قد يختلف باختلاف الأحوال فقد يكون الحال متطلباً للتركيز على جانب من جوانب العمل الصالح دون غيره كالصدقة في حال حاجة الناس أو استغلال أوقات السحر بالتهجد والدعاء والاستغفار والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب فالضابط لأفضل العبادة أو العمل الصالح ما قاله ابن القيم في المدارج «أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته... ومن قام بهذا فهو من أهل التعبد المطلق وهم أفضل من أهل التعبد المقيد».
هذه بعض الأمثلة للعمل الصالح والمهم أن تكرس جهدك في هذه الأيام وأن تستعين بالله ولا تعجز.
طارق بن محمد الخضر
|
|
|
|
|