يعد مجد الدين محمد بن يعقوب المعروف بالفيروز آبادي)729 817ه(، من أبرز الأعلام الموسوعيين الذين انجبتهم الحضارة الإسلامية، والقارئ لقوائم مشايخه ومصنفاته المبثوثة في المصادر المختلفة يرى مصداق ذلك ويدرك مدى تعدد مشارب ثقافته وتنوعها.
ولن نتحدث في هذه المقالة عن اسمه، ونسبه، ومولده، ونشأته، وتعليمه، ومؤلفاته الكثيرة، فهذه الجوانب من حياته معروفة ومشهورة، ويوجد العديد من الدراسات الحديثة التي اهتمت بدراستها يمكن الرجوع إليها لمن أراد، وإنما سنحاول أن نلقي الضوء على جانب آخر من حياته قد لا يكون معروفاً عند الكثير منا، وهو: علاقاته بسلاطين وحكام العالم الإسلامي في عصره. لقد عاش الفيروز آبادي جزءاً كبيراً من حياته قريباً من ذوي السلطان والنفوذ في العالم الإسلامي آنذاك، يجالسهم، ويسامرهم، ويقبل اعطياتهم، بل إنه ارتبط مع بعضهم بالقرابة عن طريق المصاهرة مثلما كان الحال مع السلطان الرسولي في اليمن الأشراف إسماعيل )778803ه( عندما تزوج الأخير ابنته لفرط جمالها. ولاشك أن تلك العلاقة قد انعكست على صاحبنا ايجاباً وسلباً، وكان لها أثرها الواضح على شخصيته وحياته العلمية، فمن جهة، فقد ساعدته اعطيات وصلات السلاطين على توسيع مداركه، وفي تكوينه الفكري، وذلك باقتنائه لما يريد من الكتب النفيسة حتى قيل انه اشترى بخمسين ألف مثقال من الذهب، وكان لا يسافر إلا ومعه عدة أحمال من الكتب يخرج أكثرها في كل منزل فينظر فيها ثم يعيدها . كما أن اتصاله بالسلاطين ساهم في وفرة انتاجه العلمي، إذ نجد أن العديد من كتبه قد ألّفها لهم إما للتقرب إليهم، ورد بعض أفضالهم، أو بطلب مباشر منهم. على أنه من جهة أخرى لم تخل تلك العلاقة من المجاملة التي عادة ما تقع في مثلها، وهي مجاملة يرفضها الكثير من أهل العلم، من ذلك اضطراره إلى مدارة السلاطين، وتأييدهم فيما يذهبون إليه، وإيجاد المبررات اللازمة لهم مثلما عمل مع سلاطين بني رسول في اليمن، حيث وقف معهم وأيدهم في ميلهم إلى رجال الصوفية ضد الفقهاء من أهل السنة، وتأليف لبعض الرسائل والفتاوى للرد على منتقديهم، وأخذه ببعض أقوال وأوهام علماء الصوفية التي اودعوها في كتبهم. ويذكر ابن حجر العسقلاني أنه طالع كتابه الذي شرع في تأليفه لشرح صحيح البخاري والمسمى ب«مِنح الباري بالسيح الفسيح الجاري، في شرح صحيح البخاري» فوجده مليئاً بغرائب المنقولات من كتب الصوفية، ثم أرد ف قائلاً: بانه لا يتهمه بالتصوف، الا أنه كان يحب مداراة السلاطين، وانه لما اجتمع به في زبيد سنة 800 ه أظهر له انكاره لأقوال الصوفية، وتبرأ منها، ووافقه في انتقاده لهم كما أن العديد من كتبه لم تخل من اهداء لأحد السلاطين، وإنشاء مقدمة في مدحه، والتملق إليه، بل تجاوز الأمر ذلك إلى أن صار بعض السلاطين يأمره بالتأليف في موضوع ما فيستجيب لهم، كما سنرى .كان أول اتصال فيما يظهر للفيروز آبادي بذوي السلطان في حوالي سنة 767ه عندما وفد على القاهرة واتصل بالسلطان المملوكي آنذاك الأشرف شعبان )764 778ه(، والذي بدوره رحب به وأكرمه، واحسن إليه، وقرر له رواتب شتى تقوم بكفايته، فتوثقت العلاقة بينهما، وصار الفيروز آبادي يرتاد بلاط السلطان، ويجالسه، ويتدارس معه مختلف العلوم والفنون .وقد أثمرت تلك العلاقة عن كتابة الفيروز آبادي لرسالتين شرح فيهما خطبة كتاب الكشاف المشهور، وهما بعنوان: «الخشاف لحل خطبة الكشاف» و«نغبة الرشاف من خطبة الكشاف» وقد ذكر في مقدمة«النغبة » قصة تأليفه لهما بما معناه: انه ذات مرة سأل السلطان عن الفرق بين «أَنْزَل» و«نَزَّل» من صدر كتابه الكشاف، وهل لقول العامة: كان في الأصل «خَلق» مكان«أنزل» أصل أم لا؟ وما المعتمد في هذا الخلاف؟ فأجابه السلطان بجواب حسن، فأراد الفيروز أن يستكمل ذلك الجواب ويضيف إليه شرح بقية ألفاظ خطبة الكشاف، فشجعه السلطان على ذلك ووفر له كل مايريد، فشرع في تأليف الرسالة الأولى، فلما انتهى منها قدمها للسلطان وتقرب بها إليه في سنة 768 ه ولكنه لما لم تكن منها إلا نسخة واحدة فقد تلفت لكثرة تناقلها بين الناس، فطلب منه السلطان تأليف رسالة أخرى، فقام بذلك وسماها «نغبة الرشاف من خطبة الكشاف »
كما ألَّف للسلطان هذا كتاب آخر بعنوان «الجليس الأنيس في أسماء الخندريس» وهو يبحث في الخمر، واسمائه، وصفته، وحكمه. ويذكر العزاوي انه رأى منه نسخة قديمة بدار الكتب المصرية كتبت في عصر المؤلف سنة 777ه، ربما تكون بخط المؤلف،مكتوب عليها: «إنه برسم خزانة السلطان الملك الأشرف شعبان، خلد الله سلطانه». ولم تقتصر علاقات الفيروز آبادي خلال هذه الفترة على السلطان المملوكي فقط، بل كان له علاقاته واتصالاته مع بعض الأمراء البارزين مثل: الأمير أسندمر بن عبدالله العلائي )ت772ه(، حاجب السلطان ومقدم دمشق. وقد أهدى له الفيروز آبادي كتاب «الغرر المثلثة والدرر المبثثة»، وكتب له مقدمة طويلة بالغ فيها في مدحه وذكر حسناته، وفضائله، واستعرض فيها فضل اسمه، واضداده، وفي حدود نيف وثمانين وسبعمائة وفد على العراق قادماً من مكةالمكرمة، واتصل بصاحب تبريز وشيراز شاه منصور بن محمد بن مظفر )ت 794ه ( فأكرمه الأخير وأجزل له العطاء، ومكث عنده فترة معززاً مكرماً، ومن هناك ذهب إلى الهند، ونزل عند صاحب دهلي )دلهي( الملك فيروز شاه، التغلقي )752790ه( فحظي عنده حظوة كبيرة، ورتب له في كل يوم خمسمائة تنكة عملة فضية صغيرة وربط له على بابه خمسة فيلة وجعله شيخ الحظيرة، وكانت مدة إقامته عنده خمس سنين.
وفي موسم حج سنة 792ه وصلت مع الحاج العراقي رسالة من صاحب بغداد أحمد بن أويس )ت813ه( يطلب منه القدوم إليه، وفيها ثناء عظيم عليه، منه قوله:
القائل القول لو فاه الزمان به
كانت لياليه أياماً بلا ُظلمَ
والفاعل الفعلة الغراء لو مزجت
بالنار لم يكُ ما بالنار من حمم
وفيه أيضاً :
ولو نُطيق الفَرْقَدَين لكم
والشمس والبَدر والعَيّوق والفلكا
وكان قد بعث له مع الرسالة هدية، فذكرهذا البيت معتذراً، ومحتقرًَ لما أهدى إليه. وما إن انتهى موسم الحج حتى شد رحله، وامتطى مطيه مع الركب العراقي الحاج،غير أن المصادر المتاحة لا تعطينا اخباره مع السلطان ابن أويس، حتى أن تلميذه تقي الدين الفاسي «يقول: وما عرفت خبره مع مستدعيه».ومن بغداد اتجه إلى الأناضول، حيث زار السلطان العثماني بايزيد الأول )791ه 805ه ( المشهوربحبه للعلماء ورعايته لهم . ومرة أخرى لا تساعدنا المصادر على معرفة أخباره هناك، وكم المدة التي مكثها في بلاط السلطان العثماني. وعلى كل حال، فقد اتجه بعد عودته من الأناضول إلى المشرق الإسلامي، وبالتحديد إلى بلاد فارس حيث وفد على حاكمها آنذاك تيمور لنك في مقر اقامته بشيراز، فأكرم الأخير نزله، واغدق عيله الأموال، والهدايا السنية حتى قيل انه وصله بأكثر من مائة ألف درهم