| مقـالات
لا يمكن تبرير العزوف عن المحاضرات والندوات الثقافية العامة بعدم وجود الوقت أو عدم اندراج موضوعها ضمن قائمة الاهتمامات الخاصة للمتابع.
لأن الوقت سيهدر سواء استثمرناه أم لا، كذلك لا نستطيع أن نحصر قائمة اهتمامنا بموضوعات محددة ونختصرها ضمن دائرة التخصص، فالمعرفة الشمولية والواسعة حتى على مستوى المحاضرات من شأنها أن توسع أفق الرؤيا وتثريه، وتأخذه إلى نوافذ جديدة تطل على الكون والعالم، ناهيك عن ان الجو الثقافي الذي ينشأ خلال المحاضرات والندوات مهم ولازم في دعم البيئة الثقافية والفكرية وتنشيطها من خلال دماء جديدة تسري في عروقها.
وعلى الرغم من ان محاضرة د. هويدا الحارثي التي اقيمت الاسبوع الماضي ضمن أنشطة الهيئة الاستشارية للمتحف الوطني، كانت تتناول جوانب هندسية وعمرانية وهي تبتعد نوعا ما عن إطار اهتماماتي إلا أنها ومن خلال دقة وجهد أكاديمي واضح استطاعت ان تقوم برحلة اختراقية جسورة عبر الزمان والمكان، تلك الرحلة المثيرة والثرية في الوقت نفسه، والتي استطاعت أن تقدح وتضيء الكثير من الأسئلة التي تلت المحاضرة ليلة الأحد الماضي، وهذا يقودنا إلى حقيقة أنه ليس بالضرورة ان يكون موضوع المحاضرة داخل اطار اهتماماتنا وتخصصنا، ولكن بالتأكيد المحاضرات العامة لابد أن تضيف شيئاً ولو بسيطاً إلى مخزوننا المعرفي والثقافي.
وأجمل ما أثار اهتمامي وتساؤلاتي في محاضرة د. هويدا هو دور المرأة في التاريخ السياسي، وإن كان موضوع المحاضرة يدور عن أثر المرأة في العمران (في عصر المماليك) فإن المجسمات والأبنية والفسيفساء والنقوش والمنمنمات التي كانت ترافق المحاضرة أخذتني بشكل سحري الى المكان القديم الذي كانت الجارية تلبس قفازها الحريري وتحكم من وراء الأغشية والحجب، والى قلاع المماليك البحرية والبرجية، وسلم الجواري الطبقي الذي يبتدئ بجارية فمحظية وان ابتسمت لها نجمة الاماني غدت أم سلطان أو القهرمانة.
وتلك الجارية التي لم تكتف بأن تكون لؤلؤة أو جوهرة أو درة بل غدت شجرة من... الدر، وأسطورة تداولها النسوة فيما بينهن كلما حفرت حفرة الوأد أو جهز اللجام.
وسطوة ذلك الوجودوتأثيره يسوقه إلى الدهاليز الخلفية والأقبية كما تخبأ الألغام!
وممتاز محل عاشت مرتين.. مرة في وجدان زوجها حبيبها الذي أفجعه رحيلها، ومرة أخرى في ضمير العالم كأحد عجائب الدنيا السبع التي يصنعها الحب فقط.
وإن كانت كتب التاريخ الوقورة والرصينة لا تذكر شيئاً ذا بال حول وجود المرأة السياسي في فترة حكم المماليك ولكنها بالتأكيد تغفل القراءة السرية الأخرى لتلك الفترة، والتي كان للمرأة حضور قوي وفاعل لكنه يحمل تجلياته الخاصة ومفاتيحه المغفلة والتي بحاجة إلى قراءات متعددة للتاريخ حتى نحصل عليها وقد... لا!!
وأخيراً على الرغم من ان محاضرة د. هويدا حول هذا الموضوع غلب عليها السرد التاريخي والرصد الموضوعي لإنجازات المرأة في العمران في تلك المرحلة، فإنني على الرغم من ثراء المادة المقدمة إلا أنني كنت أتوقع ان تربط الباحثة الشكل العمراني بالفلسفة التي انطلق منها وعبر عنها فنحن نعرف جميعا أن العمران هو اللغة الأولى التي تعبر بها الحضارات عن فسلفتها ورؤيتها لما حولها، فمثلا نعرف بأن عملية التكرار اللانهائي في الرسومات الزخرفية الاسلامية تنطلق من ذهنية تؤمن بالخلود، وسطوة الزخارف النباتية هو البديل الإسلامي لتحريم (التصوير) في أماكن العبادة، وإن الأهرام هي رمز الحياة للفرعونية القديمة بينما ناطحات السحاب الطويلة والخالية من الجمال والبهجة تعبر عن حضارة عملية استهلاكية تفضل قانون المنفعة على الجمال.
وكنت أتوقع من المحاضرة شيئاً من هذا القبيل.. ولكن هذا لا ينفي روعة محاضرة متميزة واضحة الجهود، وأهم من كل هذا تقود باتجاه.. حقل من الأسئلة.
Email:omaimakhamis@yahoo.com
|
|
|
|
|