| مقـالات
أما رواية (البعث) للمغربي المضارعة (للتوأمان) والصادرة في اطار مرحلتها الزمنية، ونزوعها الاصلاحي، ومستواها الفني، فتصور حياة الشاب السعودي (اسامة الزاهر) الذي يسافر الى الهند للعلاج، وفي المشافي تنشأ بينه وبين ممرضة هندية غير مسلمة اسمها (كيتي) علاقة حب عارم تنتهي بالخطبة المحكومة بظرفها، ولكن العودة الى الوطن واشتعال الحرب تحولان دون التواصل بين المحبين، لينشأ حب جديد مع فتاة اخرى في الطائف، ثم يتحول البطل الى رجل اعمال، وفي المشاعر المقدسة يلتقي بمحبوبته الهندية المسيحية التي اسلمت، وحجت ويتزوجها، والرواية ذات بعد اصلاحي ورؤية حضارية، وليس في احداثها ولا في شخصياتها اي تشابك، تقع الرواية في سبعين صفحة، وقد طبعت مع قصص اخرى، وهي قصة طويلة لولا تعدد الازمنة والامكنة.
اما رواية (فكرة) للسباعي فخليط من الخيال المجنح، والواقع الاجتماعي، و (فكرة) اسم لبطلةالرواية التي وصفها السباعي في مستهل الرواية بأنها هازئة بقواعد الحياة وموضوعات الناس واعرافهم، و (فكرة) فتاة جادة في تصورها للحياة، والاحياء ولانماط السلوك، بدوية متمردة، لقيت الشاب (سالم) الذي يحاول التبدي معها ليتزوجها، ولكنها تجادله، تصرفه الي حاضرته، وحين يلتقيان معاً صدفة في المشاعر المقدسة يكتشفان انهما اخوان، (ففكرة) فقدها اهلها طفلة، وكانت اذ ذاك تسمى (آسيا) ثم عثروا عليها، فطاروا بها فرحاً، واستنكروا تغيير اسمها. ولعلنا نمعن النظر في علاقة التسميتين بمسماهما الوضعي او العلمي: (آسيا) القارة. و (فكرة) واحدة الافكار، وايا ما كان الامر، فان الاغراق في الخيال ما يزال ضريعاً للسباعي في كل اعماله، مما حدا ببعض النقاد الى مؤاخذته على هذا الاغراق، حتى لقد كاد الخيال المستحيل يحول دون جدوى مثل هذه الاعمال التي تقترب من عالم الخرافة. واحسب ان السباعي يدعو الى التحضر، ولكنه لم يحسن المعالجة، والروايات الثلاث (التوأمان) و (فكرة) و (البعث) متقاربة في المستوى الفني واللغوي والموضوعي، كالنزعة الاصلاحية والنقد الاجتماعي، ومتقاربة في فقد جانب من الخصائص الروائية، مع جمال الاسلوب وسماحته، وغموض هوية البطل.
يقول الدكتور بكري امين:(والشخصية فيها فكرة لا كائن حي قائم)(4) ولم نشأ اطالة الحديث عن هاتين الروايتين املاً في تعقب اعمال مهمشة لا تقل عنهما، واعتماداً على تغطيات تاريخية وفنية من متعقبي تلك الحركة.
اعود لاقول: ليست ريادة الانصاري للقصة والرواية مقتصرة على العمل الابداعي وحده، وانما هي دعم لهذا اللون من الابداع. لقد حرص على استنهاض الهمم، وحفز الادباء الشباب على ممارسة الكتابة القصصية. يقول الدكتور الحازمي فالمنهل منذ تأسيسها سنة سبع وثلاثين وتسعمائة والف، قد اولت الادب القصصي عناية خاصة، وافردت له باباً ثابتاً في اعدادها الشهرية (5). في حين لم تعن جريدة (كأم القرى) بالادب القصصي (6). والانصاري اصدر روايته قبل ان ينشئ (المنهل) بسبع سنوات، فالهمُّ عنده قائم من قبل ، والموهبة التي شغل الانصاري عن صقلها، وتنميتها كامنة فيه، مهيأة لمواصلة الابداع. غير ان عنف المواجهة وبرودة الاستقبال حدت بالانصاري الى الاشتغال بالمقال، والوقوف عن مواصلة الابداع: شعراً ورواية، وهو قد احسن صنعاً،اذ لم يصدر الا ديواناً واحداً هو (الانصاريات) ورواية واحدة هي (التوأمان) فما كانت موهبته لتجود بما هو افضل مما كان. والتقويم الفني لمرحلة الريادة يمس الاعمال الروائية، وقد يسقطها، اذا اخذت بما آلت اليه الرواية المعاصرة من نضوج في الوطن العربي من قبل ومن بعد وفي المملكة فيما بعد. حتى الذين نقدوا تلك الاعمال من المعاصرين لصدورها، من امثال محمد حسن عواد، ومحمد سعيد العامودي، وعزيز ضياء، او اللاحقين من المؤرخين للادب السعودي والدارسين له من امثال، الدكتور منصور الحازمي، وبكري الشيخ امين ومحمد الشنطي، والسيد محمد ديب مسوا هذه المرحلة مساً خفيفاً، وغفلوا او تغافلوا عن تصور واقعها والنظر الى سياقها بالشكل الذي يجسد ابعادها الدلالية والفنية، ويحدد مستوى المبدعين والناقدين. ولعلهم او لعل بعضهم فهم النقد على انه توصيف للسياق، وليس محاكمة له على ضوء امكانياته ومستواه في سياقه المحلي على الاقل. ومع هذا فقد قلل الحازمي من قيمة الاعمال الروائية التي صدرت في الفترة الواقعة بين صدور التوأمان سنة 1349ه 1930م و (ثمن التضحية) للدمنهوري سنة 1959م، وان اومأ بشئ من التحفظ الى عملين صدرا في عام 1948م هما:(البعث) و (فكرة) واكاد اجزم بأن البعث لم تعط بعض ما تستحق من الدراسة المعمقة، وان كانت ذات نمطية في المواقف وصفة المكان وظواهر الطبيعة وكذلك في المفاجآت.
بعد هذه الاعمال الرائدة، توقف الانصاري عن الابداع القصصي والروائي والشعري، ولحقه المغربي فيما اعلم، فيما استمر السباعي يبدع ويكتب، غير انه لم يطور آلياته بالقدر المتوقع.
،والسباعي يمتلك جرأة المغامرة والتجريب والتنويع، ولكن كفاءته الابداعية ظلت في نمو بطيء، ولم يتخلص من سماته المتجلية في روايته الاولى، واعماله اللاحقة تعبير عن رؤيته الذاتية، فهي اشبه بالسيرة الفنية، ان لم تكن كتبت لتكون سيرة ذاتية، ومن هذه الاعمال:
ابو زامل: قصة الجيل الماضي طبعت بدار مصر للطباعة عام 1374ه، واعيد نشرها تحت عنوان (ايامي). وقد درسها الاستاذ عبدالله الحيدري في رسالته الاكاديمية (السيرة الذاتية).
خالتي كدرجان، وقصص اخرى طبع: دار قريش.
صحيفة السوابق: طبع دار مصر للطباعة.
مطوفون وحجاج: طبع دار الكتاب العربي 1373ه.
وتلك اعمال ابداعية اتسمت بالجرأة والمغامرة، ولم تحظ بدراسة شاملة تكشف عن خصائص تلك المرحلة من خلال اعمال رائد مكثر، قياساً الى لداته، والدراسات المسحية الشاملة، جاءت متسطحة وابتسارية، وان ظفرت بالريادة.
لقد رصد د. الديب مراحل الرواية السعودية الثلاث. وجاء تحقيبه زمنياً، كما فعل من قبله الدكتور بكري الشيخ امين. ووصف المرحلة الاولى بأنها اطول المراحل، حيث تمتد من عام 1930م حتى عام 1959م، وهي السنة التي ظهرت فيها روايات اخرى بعد (التوأمان). وقد اشرت من قبل الي معوقات الاعمال القصصية والروائية.
اما المرحلة الثانية. فقد بدت فيها المتغيرات الكمية والكيفية وتنوع المضامين والاتجاهات، وتعد هذه المرحلة البداية الحقيقية للفن الروائي في المملكة، وقد اطلقت عليها (مرحلة التأسيس)، وكاد الدارسون والمؤرخون يجمعون على ذلك، وكان رائدهم جميعاً في هذا الرأي الناقد منصور الحازمي الذي كانت دراسته الاكاديمية للروائي (ابي حديد) مؤذنة بالارهاص لنقد روائي محلي لم يشد الانتباه، ومن ثم تعثر في تشكيل نقد سردي مضارع لحركة النقد الشعري مثلما تعثرت الريادة الروائية، ولم تعقبها اعمال مباشرة الا في عام 1959م حين صدرت رواية (ثمن التضحية) للروائي السعودي حامد دمنهوري رحمه الله .
واذا كان الدكتور الديب قد قسم الحركة الروائية الى ثلاث مرحل زمنية، فان الدكتور منصور الحازمي من قبله قسمها الى اربعة انواع دلالية (10) وجاء من بينهما الشنطي معتمداً على المستويات الفنية والمتغير الدلالي، ودراسته للرواية السعودية من الناحية التاريخية والموضوعية والفنية هي الاشمل والاعمق من بين الثلاثة، او الاربعة، اذا ادخلنا الدراسة التاريخية للشيخ امين معهم. والتحقيب الزمني الثلاثي الذي اخذ به الديب يبدأ من عام 1930م فيما تأتي المرحلة الثانية عنده وعند غيره في عام 1959م، والثالثة تبدأ من عام 1980م وهي بداية لم تقترن بحدث كالمرحلتين الاولي والثانية وقد اطلقت عليها (مرحلة الانطلاق).
اما التحقيب الموضوعي الرباعي الذي ركن اليه الحازمي فيذهب به الى استهلال الرواية بالتعليم والاصلاح، ثم الرواية التاريخية، فرواية المغامرات، واخيراً الرواية الفنية. ولا اتوقع دقة هذا التحقيب، وان كان تناوله التفصيلي لكل نوع ينم عن استيعاب تام للبعدين الفني والموضوعي للاعمال الروائية، ودراسة الحازمي نشرت في مواقع كثيرة، وألقيت في مناسبات عدة، ولم يكن لها اضافة حول ماجد من متغيرات، واذ يكون الحازمي الرائد الفعلي للنقد الروائي المنهجي التخصصي، فاننا ننحي باللائمة على اشتغاله بما هو دون ذلك، حيث لم ينشئ عملاً متكافئاً في النقد الروائي يصحح المفاهيم، ويمهد الطريق وينبه النقاد الانطباعيين الذين يجهلون شروط الفن السردي ولا يفرقون بين مفرداته، ولقد فصلت القول في الدراسة النقدية عن الحازمي واشرت الى جوانب التقصير عنده. واذا كنت قد شغلت برصد تلك الحركة الابداعية فان النظر الي الحركة النقدية بوصفها صنو الحركة الابداعية من مكملات الدراسة، وقد اومأت الى ذلك عند دراسة الحركة النقدية في المملكة.
كما اشرت باقتضاب الي الخلط بين فنون القول السردي، ان في الابداع او في النقد بشقيه: التاريخي والتحليلي ابان ظهور الحركة النقدية للقصة والرواية، ولم تكن حركة النقد مواكبة لحركة الابداع كما لم تكن الحركتان مواكبتين لحركة الرواية والنقد في الوطن العربي، والحازمي بوصفه المؤسس للنقد الروائي لم يفرغ لهذه المهمة بل شغل بأمور كثيرة صرفته عن سد الفراغ في هذا المجال. ويبدو لي ان الدكتور محمد الشنطي وهو استاذ اكاديمي اردني مقيم في المملكة من اكثر الدارسين موضوعية، ومن اقربهم الي مباشرة الاعمال وتناولها بمنهج مدرسي، يحرص من خلاله على تقريب المعلومة وتحرير المسألة، ولعله فيما أنتج من دراسات تاريخية وموضوعية وفنية ونقدية كان ينظر الى التوصيل التعليمي، فهو يكتب لقاعة الدرس، دون ان يستحضر الى المشهد المتخصص، لم يأتيا بعد او قل: لم ينهضا بعد في المملكة، فسلطان الشعر لم يتح فرصة لظهور نقاد متمكنين للرواية والقصة، ولاشك ان هذا من اشكاليات العمل الروائي في الادب العربي في المملكة، واكاد اقول ان هذه الاشكالية قائمة في الوطن العربي، وان قيل ما قيل عن ذلك الزمن: بانه (زمن الرواية). والحق انه يجب ان يكون زمن الرواية وبالذات عند الدارسين والنقاد. لقد حظيت الاعمال الروائية والقصصية ومبدعوها في الوطن العربي بدراسات تطوعية واكاديمية، وان كنا لا ننكر تقحم عدد كبير من الذواقين للمذاهب الطارئة دون قدرة مطلوبة، وبخاصة من بعض النقاد المغاربة الذين اجتاحهم العشق لمذاهب النقد الجديد فحملهم على الابتسار والتعسف وتحميل النصوص مالا تحتمل من الدلالات والمقاصد فكان التأويل الخاطئ.
لقد كنت حريصاً في هذا المدخل على المراوحة بين التاريخ والوصف والتحليل واستثمار جهود النقاد الذين قرؤوا هذه المراحل بعيون مختلفة، والتقطوها من زوايا متعددة، اذ لكل قراءة امكانياتها ودوافعها، ولهذا ففي الكل خير، وهي في النهاية تشكل عملاً تكاملياً، بحيث لا يغني بعضها عن بعض، ولكنني اعود لأ قرر ان قراءة ناقد معايش مهما كانت متخففة اجدى من قراءة طارئة، وكان بودي لو أن احداً من كتابنا ونقادنا المتمكنين فرغ لقراءة شاملة عميقة لهذا الابداع، من امثال الاستاذ الدكتور الحازمي، والاستاذ الدكتور محمد الشامخ، والدكتور سلطان القحطاني، هذا فضلاً عن الجيل الجديد من الاكاديميين الذين تبشر بوادرهم بخير. نجد ذلك عند الحيدري وحسن الحازمي، وفي اعمال مخطوطة لم تر النور بعد من دارسين ودارسات، ومع هذا فان الدارسين الاكاديميين اتخموا الشعر نقداً ودراسة، ومازلنا نمس الاعمال الروائية والروائيين مساً خفيفاً. وحين اعود ادراجي لاستكمال الحديث عن البدايات الابداعية اود الاشارة الى ان البداية القصصية والروائية المتواضعة والمتعثرة في آن، امتدت من عام 1930 حتى عام 1959م، وقد تخلل تلك الفترة اعمال روائية وقصصية ودراسات تنظيرية وتطبيقية وتاريخية، تتراوح بين الاشادة والمؤاخذة والتخذيل، وقد تصل المؤاخذة الي حد السخرية المرة والتحامل الجائر، ولك ان تقرأ نقد محمد حسن عواد للانصاري رحمهما الله لتستبين الممارسات المتدنية، والتي تزيد في تدنيها عما كتبه الرافعي عن العقاد في السفود، ومن عجب انك حين تلوم على هذا الاسفاف توصف بالتحامل على الرواد، وكأن من مقتضى الريادة التقديس والتجاوز.
على ان الساحة لم تخل من تناولات جيدة، لعل من ابرزها ما كتبه محمد سعيد العامودي عن الادب القصصي في الحجاز في مجلة (المنهل) عام 1356ه، وما كتبه محمد عالم الافغاني عن (الرواية الادبية وحاجتنا اليها) عام 1360ه، وما كتبه الافغاني ايضاً عن نفسه الافغاني ينتقد قصتيه عام 1375ه.
وما كتبه محمد ابراهيم جدع عن قصة الافندي: عرض وتحليل في المنهل عام 1381ه والحوار الذي دار بين الافغاني، واحمد عبدالغفور عطار حول الزنابق الحمر وما كتبه عباس فائق غزاوي في المنهل عن القصة في ادبنا عام 1369ه. وما كتبه محمد امين يحيى عن تطور ادب القصة عندنا في المنهل عام 1374ه. وكل هذه الكتابات داخلة في العمل النقدي الريادي الذي يسبق مرحلتي: التأسيس والانطلاق، وهي بدايات نقدية تؤخذ في سياقها بحيث تمنح حق الريادة، ولا يمتد ذلك الى شيء آخر. وقد اومأنا الى ما غفلت عنه الدراسات التاريخية من اعمال قصصية وروائية. ومجمل الطرح الابداعي والنقدي لا يعدان من البدايات الناضجة. ولا يمكن ان تقارن ببدايات القصة والرواية في مصر مثلاً، فضلا عن ان نقارن كتاب الدراسات في المملكة بنظرائهم في الوطن العربي، وقد أبنّا عن المعوقات في الحجاز، حيث تمثل نظرة عرفية، وفي نجد حيث تمثل نظرة دينية تقليدية، في سائر المناطق في المملكة بحيث تمثل هذا او ذاك او هما معاً، وقد تمثل فيما تمثل نظرة تقليدية.
لقد اجتهدنا في ايجاز متعلقات المرحلة الاولى دونما تعمق او شمول، واتخذنا في ذلك سبيل الرصد والوصف للبدايات التي امتدت زهاء ثلاثين عاماً، وأبنَّا عن المستويين الابداعي والتنظيري وابرز المبدعين والمنظرين والنقاد، واجتهدنا في اعطاء تلك المرحلة مالها وما عليها بحيادية تامة، وقد ابديت استيائي من بعض التوجهات النقدية سواء منها ما اتسم بالتجريح الشخصي او بالتثبيط والتخذيل، وألمحتُ الى التقصير في مساءلة بعض النقاد عن خروجهم على اخلاقيات النقد، مثلما فعل العواد في نقده للانصاري، وتمنيت ان نخفف من تقديس الماضي والتغاضي عن هفوات الرواد، وقد لقيت في سبيل ذلك نصباً، فالنمطيون ومثقفو السماع والذين يقرؤون عن الاشياء ولا يقرؤونها يزعجهم استقلال الرأي والاستبداد، والحق ان العاجز من لا يستبد، وما أتمناه علي المشهد الثقافي ان يُعْرَف المخذولون بسيماهم، وان يبتدر الاشياء كما هي دون ان يضاف اليها او يُنقَص منها، والرأي المستقل يضيف ولا يلزم الآخرين.
|
|
|
|
|