|
| الثقافية
بعد أداء فريضة الفجر مع الجماعة في المسجد.. تجاوز «حمدان» الممرات فالغرف، ورائحة ذكية تفوح منهُ تعطِّر المكان الذي يمر بهِ، (عبارة عن آيات من الذكر الحكيم، وأحاديث من كلام النبي) صلى الله عليه وسلم.. وأدعية مأثورة.
وصل حمدان كالعادة إلى غرفة والده ـ الذي يصعب عليه الذهاب إلى المسجد بسبب الظروف الصحية التي يعاني منها ـ ليتفقد أحواله وليطمئن عليه..
ـ صباح الخير يا أبي، جاء صوت عقارب الساعة ـ لتقول: أنا المتحدث الرسمي في هذه اللحظة ـ مشيرة إلى السادسة والنصف صباحاً.
كرر «حمدان» النداء..
ـ صباح الخير يا أبي.. يا أبي..
امتنع الأب عن الجواب، اقترب «حمدان» إلى أبيه، ثم وضع يده على جبينه، فأحسَّ بتلك «البرودة» تتسرب عبر أصابعه إلى جسده.
بدأ يحرك يده على الجبين، فالعينين، ثم صدره.. ارتفع صوته قائلا: أبي.. أبي.. فانزلقت تلك الكلمات من بين شفتيه :«طاهر.. طاهر» اعتدل بعد أن قال هذه الكلمات، وتذكر أنه لأول مرة ينادي أباه باسمه منذ أن وطأت قدماه المعمورة.
تردد قليلاً، ثم رفع السماعة، انطلقت تلك الأصابع تشن هجوماً، على الأرقام بسرعة البرق..
انتظار.. انتظار.. قطع الانتظار صوت غليظ ممزوج بالنعاس..
ـ آلو.. مين.
ـ طبيب «أنور» أنا حمدان.
ـ خير يا ابني.
ـ أريدك أن تحضر إلى البيت بأقصى سرعة!!
ـ ماذا جرى.. لا سمح الله؟!
ـ أبي.. أبي..
لم يسمع الطبيب «أنور» أبي إلا مرة واحدة..
تسرب الخوف في «حمدان» فأحس بجفاف في الحلق، وزيادة في دقات القلب..
أخذ يُقبِل ويُدِبر في الصالون حتى سمع الطارق..
ـ الطبيب: ماذا حدث؟
ـ حمدان: أبي امتنع عن الجواب!!
ـ الطبيب: منذ متى؟
ـ حمدان: لا أدري.
ـ الطبيب: خيرا إن شاء الله.
قال الطبيب الكلمة الأخيرة بكل تفاؤل..
فتح الطبيب الحقيبة، وأخرج جهازاً ووضعه على صدر والد «حمدان»، وبدأ يستمع ومن ثم بإصبعين فتح عينيه، وبعد وضع «الترمومتر» الحراري في فمه، وبعد دقيقة التفت وقرأ ما كتبه ذلك المقياس..
«البقية في حياتك، أبوك قد فارق الحياة منذ نصف ساعة»
زاد الجفاف.. أضعافا مضاعفة، حتى أصبح اللسان سيفاً يحارب كل الكلمات التي تريد الخروج إلى النور..
أخذت دقات قلب «حمدان» تزيد.. وتزيد وأحس بفتور في الأطراف، وصعوبة في التنفس وكأن غرفة والده كسيت بوشاح أسود..
سقطت تلك الدمعة الثقيلة التي تحمل معها جرح السنين التي مرت ـ خلال ثلاثة العقود الماضية.
أغلق «حمدن» عينيه فقرأ من ذاكرته ذلك الشريط المتحرك المكتوب عليه..
قول الحكيم:
وَكَمْ منْ فَتىً أمسى وَ أَصبَحَ ضَاحِكاً
وَأكْفَانُهُ فيِ الغيبِ تُنْسَجُ وَهُوَ لا يَدْرِي
فَمَنْ عاشَ ألفْاً وأَلفيْنِ
فلابدَّ مِنْ يومِ يَسيرُ إلى القْبرِ
أنكب «حمدان» على ذلك الجسد الذي أصبح دون روح.. والذي طالما سهر وتعب من أجله وقبل «حمدان» رأس والده «قُبْلةُ الوداع»، ثم رفع رأسه ونظر إلى الطبيب، فقال:
قال تعالى: «وَبَشّر الصَّابِرِينَ الذَّينَ إذَا أصابَتْهُمْ مُصيبةٌ قَالُوا إِنَّا لله و إِنَّا إليْهِ رَاجِعُونَ أُولئكَ عَليَهْم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبهمْ وَرَحْمَةُّ وَأُولئكَ هُمُ المُهْتَدوُنَ».
عبدالله الحمود - حائل
|
|
|
|
|
