| شرفات
البعض يتفاءل ويضع على جناح العولمة كل الآمال والاحلام في مستقبل وردي وعادل لجميع البشر، والبعض الآخر يتوجس ويتشاءم ويرى على جناح العولمة الآخر عشرات المخاوف والهواجس.
هل هي الحلم الذي ينتظره البشر بفارق الصبر ام كابوس يمضي بأهل الارض إلى مجهول مظلم؟ مئات من الرؤى المتفائلة والمتشائمة تتسابق لعرض مواقفها عبر الفضائيات والصحف والانترنت والمراجع العلمية الكل يتحدث عن «العولمة» او خرافة القرن الحادي والعشرين.
البروفيسور بول هيرست - استاذ النظرية الاجتماعية في جامعة لندن - وزميله البروفيسور جراهام طومبون - استاذ الاقتصاد السياسي - قررا ان يتساءلا من البداية ما العولمة؟ وذلك في الكتاب الذي صدر مؤخرا عن عالم المعرفة من ترجمة الدكتور فالح عبد الجبار.
لا يستغرق المؤلفان المتمرسان في مناقشة ادبيات مصطلح العولمة او عرض تجلياتها في مناحي الحياة المختلفة وانما يركزان منذ البداية على مجال رئيسي هو الاقتصاد: الاقتصاد العالمي وامكانات التحكم، باعتبار ان ظاهرة العولمة ظاهرة اقتصادية بالاساس، ومن هذا المنطلق تأتي مناقشة مجموعة من القضايا والافكار الاساسية مثل تدويل نشاط الاعمال والشركات متعددة القومية.
الاقتصادات النامية والعولمة، الاتحاد الاوروبي بوصفه كتلة تجارية، العولمة: التحكم والدولة القومية.
تسعة فصول مليئة بالبيانات الموثقة والجداول والرسوم البيانية لكنها لم تأخذ طابعا اكاديميا جافا، فهي تخاطب الجمهور العام بالاساس وتطرح العديد من الاسئلة المثيرة والمشوقة، وتدحض الكثير من الافكار المستهلكة عبر الصحف وقنوات التلفزة. فالمؤلفان حريصان منذ السطور الاولى على مناقشة المصطلحات وتدقيقها ومراجعة التعميمات المختلفة التي تطرح هنا وهناك للاستهلاك الاعلامي.
بداية يتحفظ المؤلفان على مفهوم العولمة الذي صار «موضة» رائجة في العلوم الاجتماعية وشعارا يتداوله الساسة والصحافيون، وكأننا نعيش صيرورات كونية global تذوب فيها الثقافات والاقتصادات القومية فتلك صورة مبالغ فيها تشمل المحللين وتسيطر على ملكات التفكير السياسي، رغم هشاشة المزاعم التي يطرحها انصار العولمة الاقتصادية ويجمل الباحثان أسباب التحفظ على خرافة العولمة فيما يلي:
1- الاقتصاد العولمي الحالي شديد التدويل ليس شيئا لا سابق له، فهو واحد من الحالات المتميزة للاقتصاد العالمي الذي وجد منذ ان بدأ تعميم الاقتصاد القائم على التكنولوجيا الصناعية في ستينيات القرن التاسع عشر، بل من بعض النواحي يعتبر الاقتصاد الحالي اقل انفتاحا واقل تكاملا مما كان عليه النظام الذي ساد فيما بين عامي «1870 - 1914م».
2- الشركات العابرة للقوميات بحق تبدو نادرة نسبيا، فأغلب الشركات حتى الآن هي شركات ذات قاعدة قومية وتعتمد على موقع قومي اساسي.
3- حراك رأس المال لا ينتج أي تحول هائل في الاستثمار والعمالة من البلدان المتطورة إلى البلدان النامية، فالاستثمار الاجنبي المباشر FDI يتركز بالاحرى في الاقتصادات الصناعية المتقدمة اما العالم الثالث فلا يزال هامشيا من ناحيتي الاستثمار والتجارة على حين يتركز الاستثمار وتدفقات التجارة في ثلاثي اوروبا واليابان وامريكا الشمالية.
4- القوى الاقتصادية الكبرى او الثلاث الكبار (G3) تملك القدرة خاصة اذا نسقت سياستها على ممارسة ضغوط تحكمية جبارة على اسواق المال، وعليه فان الاسواق الكونية ليست خارج متناول الضبط والسيطرة كما يتوهم البعض.
5- حتى الآن لا يوجد نموذج مقبول عموما عن الاقتصاد الكوني وسبل اختلافه عن الاحوال السابقة للاقتصاد العالمي.
6- الافتقار إلى العمق التاريخي والنزوح إلى تصوير المتغيرات الجارية باعتبارها فريدة لا سابق لها من قبل وراسخة تماما لكي تستمر طويلا في المستقبل.
لا يعني هذا ان المؤلفين «ضد» العولمة وإنما هما ضد الكلام المرسل وتغييب الحقائق وعدم وضع الظواهر في اطارها التاريخي وسياقها الاجتماعي والسياسي فخرافة عولمة النشاط الاقتصادي، في مجري نشوئها وتبلورها تأثرت بمجموعة من الاحداث السياسية والعسكرية الهامة، فعلى سبيل المثال ارتبط الاقتصاد العالمي في بدايات القرن العشرين بالنظام البريطاني باعتبار ان بريطانيا العظمى هي المسيطر والضامن السياسي والاقتصادي لهذا النظام الاقتصادي كذلك لم يستمر نظام بريتون ووذر الكامل بعد الحرب العالمية الثانية سوى فترة تقع بين نيف وثلاثين إلى اربعين عاما، بما يعني ان تغير هذه النظم يقع بفعل تغيرات كبرى في توازن القوى السياسي الاقتصـــادي وحسبما يجد من نزاعات واسعة بين الدول الكبرى او منعطفات ظرفية مثل ازمتي نفط اوبك في العامين 1973 و 1979م اللتين رفعتا اسعار النفط بصورة هائلة.ولاشـك ان ثورة الاتـصالات والمعلومات في اواخر القرن العشرين دفعت قدما تطور النظام التجاري لكنها لم تخلقه تماما مثلما فعلت خطوط التلغراف العابرة للقارات خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.صحيح ان المنظومات الحديثة قد زادت من الحجم والتعقيد الممكنين للصفقات التجارية زيادة هائلة الا ان الفرق بين نظام تجاري تتحرك فيه السلع والمعلومات بواسطة السفن الشراعية ونظام آخر تتحرك فيه هذه بواسطة السفن البخارية، فرق نوعي ولايدل على تغيير جذري في البنى الاقتصادية.
كما يحرص المؤلفان على التأكيد بأن هناك فرقا بين القول اننا نعيش في اقتصاد معلوم راسخ والقول بأن الحقبة الراهنة تنطوي على ميول عولمية شديدة مع الاخذ في الاعتبار ان مهمة تشخيص الموقف بصورة قاطعة بالغة الصعوبة، نظرا للتغيرات السياسية المهمة والمتواترة بصورة مربكة فعلى سبيل المثال يخلط البعض ما بين مفهوم «الاقتصاد الكوني» ومفهوم «اقتصاد ما بين الامم» فهذان نموذجان مختلفان وان اختلطا في الواقع الفعلي اختلاطا متسما بالفوضى كما انهما لا يلغيان وجود بعضهما البعض، ولكن بشروط معينة يمكن للاقتصاد والكوني ان يحوي النظام الآخر، واذا حدث هذا نكون بازاء مزيج مركب من سمات هذين النموذجين القائمين في الوقت الراهن: فاما نمو العولمة واما استمرار الانماط القائمة لاقتصاد ما بين الدول.
ومن الادلة على استمرار نظام «اقتصاد ما بين الدول» هيمنة البلدان المتقدمة في كل من التجارة والاستثمار الاجنبي المباشر، وتوجه الصناعات ومراكز الخدمات المالية ذات القاعدة القومية نحو الخارج توجها قوميا، وكذلك ضعف تطور الشركات عابرة القوميات مقارنة بالشركات متعددة القومية «هناك فرق بين النوعين» وعليه فان ما يشكل النقيض للاقتصاد الكوني ليس الاقتصاد القومي المنغلق على نفسه، وانما هو سوق عالمي مفتوح يقوم على المتاجرة بين الامم، ومثل هذا الاقتصاد قائم بهذه الصورة او تلك منذ سبعينيات القرن التاسع عشر رغم النكسات الكبرى.بالنسبة لعلاقة البلدان النامـــية بالعولمة، كان من المفترض مع حرية التجارة وحركة رأس المال ان تنطلق معظـــم بلدان العالم النامي في ظل اقتصاد السوق ويشمل ذلك بلدانا كبيرة مثل الصين والهند واندونيسيا والبرازيل لكن الازمة الآسيوية عام 1997م ألقت ظلا من الشك العميق على مثل هذه التنبؤات «مناقشة الازمة في الفصل الخامس».
وفي الفصل السادس يناقش المؤلفان الزعم القائل ان تزايد الانفتاح العالمي قد زاد من حدة الصدمات التي ألمت بالاقتصادات المحلية، وقلص القدرة على ادامة انظمة الرفاه اللازمة لمعالجة هذه الصدمات، لكن الحقيقة ان دولا صغيرة وعالية التصنيع مثل الدنمارك وهولندا استطاعت ان تديم نظام الرفاه وتصلحه في فترة اشتداد جلي للمنافسة العالمية كما يناقش المؤلفان في الفصل الثامن الاتحاد الاوروبي باعتباره اكثر الكتل التجارية تطورا وتأثيرات اليورو على النظام الاقتصادي العالمي بينما يعالج الفصل التاسع الابعاد السياسية لعملية التحكم الاقتصادي ودور الدول القومية وما يمكن ان تلعبه في ترسيخ وتوسيع اطر التحكم، ويخلص المؤلفان إلى ان عمليات التدويل لم تقوض الدولة القومية كما يتوهم البعض بل انها ترسخ اهميتها من نواح عدة.
|
|
|
|
|