| شرفات
بعض النقاد يكتفي بالكتابة على هامش المتن الابداعي، لكن عبدالمنعم تليمة لم يحبس سطوره في خانة الناقد الاكاديمي، واصر منذ البدايات وعلى مدار ما يزيد على أربعة عقود أن يطرح مشروعا أرحب، مشروعا يكمل مسيرة اساتذته الرواد: طه حسين وامين الخولي ومندور وزكي نجيب محمود والشيخ محمود شاكر.
في مقالاته أو محاضراته.. وفي صالونه الفكري الذي يقيمه مساء كل خميس، دائما يضع نصب عينيه الشأن الثقافي العام.. ورغم غيبته عن الوطن العربي قرابة عشر سنوات قضاها استاذاً للادب العربي في اليابان، إلا أنه كان دائما بالقرب من نبض الثقافة العربية بهمومها وآمالها. يقيس هذا النبض ويشخص العلل ويبحث عن بوصلة تقود إلى المستقبل. إنه أحد المفكرين العرب القلائل الذين اختاروا المستقبل هاجسا اساسيا. من هنا كان هذا الحوار حول المشهد النقدي وازمة الثقافة العربية في ظل التحديات الراهنة.
مصادر التكوين
* بدأت خطواتك في آداب القاهرة وهي حافلة برموز الثقافة العربية.. فمن من هؤلاء الاساتذة كان له أكبر الأثر في مشوارك؟
في ايامي الأولى بالجامعة سنة 1956م ذهبت إلى درس للفرقة النهائية كي استمع إلى المحاضر الشيخ الأكبر طه حسين. كان الزحام شديداً، وجاهدت حتى وصلت إلى مقعد الشيخ وافترشت منديلي على الأرض بجوار قدمي الاستاذ وجلست واخذت اتلقى. منذ تلك الخطوة الأولى وما تلاها من خطوات بقسم اللغة العربية وانا مرتبط بشيوخ هذه الثقافة واساتذتها، وهم جميعا في غنى عن ذكرهم، لأنهم من الرسوخ في العلم وذيوع الصيت بحيث يعرفهم كل من له اتصال بتراث هذه الأمة.
* من الممكن ان نتحدث بشيء من التفصيل عن دور بعض هؤلاء كمصادر مهمة في سنوات التكوين..؟
تتعدد مصادر التكوين بالنسبة لي داخل وخارج آداب القاهرة، فمثلا درست المعجم العربي على يد الاب قنواتي بمعهد البحوث والدراسات، وتجديد الفكر الديني على الشيخ علي عبدالرازق، وتفاعل الادب والمجتمع على زكي نجيب محمود، ومذاهب الادب وفنونه على محمد مندور. كما حضرت جلسات مجمع اللغة العربية برئاسة أحمد لطفي السيد، وانتظمت زياراتي الاسبوعية لعدد من المشاهير والنجوم في سماء الثقافة العربية آنذاك، مثل ندوة العقاد وسلامة موسى وغيرهما.
ويمكن القول إن علاقتي لم تنقطع باربعة من الاساتذة الكبار كانوا بمثابة مراجع عليا أرجع إليها وهم الدكتور محمد مندور وشيخ المحققين محمود شاكر وكلاهما أمة وحده وايضاً رئيس مجمع الخالدين الدكتور ابراهيم بيومي مدكور والدكتور زكي نجيب محمود.
* تخصصك في الأساس، هو النقد الادبي.. بعد خبرة السنين في هذا المجال.. كيف ترى مشهد النقد العربي حالياً؟
بداية يمكن القول إن هناك مقولات اساسية سيطرت على حركة النقد العربي منذ بدايات القرن العشرين، منها مقولة «العصر» ويمثلها طه حسين، و«الشخصية» ويمثلها العقاد، و«البيئة» ويمثلها الشيخ أمين الخولي، وهناك ايضا مقولة «المجتمع» وتتجلى بقوة في نقد محمد مندور ومحاولته الرائدة في رسم خريطة لمدارس الشعر العربي. بالطبع لا نستطيع القول إن هذه المقولات في كتابات هؤلاء الاعلام تأتي نقية الصورة وانما كان يعتريها كثير من الغموض والتداخل ولم تصل إلى«خطة» تستوعب تاريخنا الابداعي المعاصر أو حتى القديم. على الناحية الاخرى تأثرت الحركة النقدية بالفكر الغربي الاستشراقي الذي قدم تصورا تجزيئياً مبدداً للادب العربي، حيث يقسمه الى عصور مرتبطة بقيام وانهيار الدول والدويلات بدلا من دراسته ككل متصل يتحرك في اتجاه صاعد نحو نضج الجماعة في الدولة القومية الحديثة.
من هنا تصبح الحاجة ماسة الى صوغ خطة جمالية وفكرية تتناول الابداع العربي من خلال محاور محددة، وهي في رأيي: ان ابداعنا العربي قطعة عزيزة من تاريخ الابداع البشري، يحمل العناصر المحلية كما يحمل عناصر انسانية عامة باقية، وللغة هذا الابداع خصائصها التعبيرية والفنية.
وكل امة في عصرنا الراهن لا تسعى إلى «نظرية» أو «عام» خاص بها، فمثلا لا يمكن القول ان هناك الآن فلسفة هندية أو عربية، فهذا يرتبط بالعصور الوسطى عندما كانت الحضارات حلقات متميزة شبه مغلقة.. اما الآن فاثبات خصوصية الابداع العربي للتأكيد على أن المبدع ينتج آثاره في ظل ظروف محددة من تطور جماعته، وللوقوف على مدى اسهام هذا الابداع في تيار الابداع العالمي الذي اصبح كلاً واحداً.
كذلك من المهم اعادة النظر في علاقة الفن بالواقع، فبدلا من أن تتأسس الصلة الجمالية بالواقع على مدار «الانعكاس» يمكن أن تطرح هذه الصلة على مدار آخر هو الموازاة الرمزية. فالفن موازاة رمزية للواقع بمعنى أنه يتجاوز طلب الواقع بما ينطوي عليه من فوتوغرافية وتماس، وصولا إلى طلب (الفن في الواقع).
* هناك قضية اخرى ترتبط بالتعامل النقدي مع النص وجدل الشكل والمضمون.. هل يمكن تقديم رؤى مغايرة لهذا الجدل؟
هناك خلاف عريض مع غلاة الاخلاقيين من ناحية، وغلاة الشكليين من ناحية اخرى.. هؤلاء يطلبون «معنى» مفارقا لتشكيل النص وهنا تضيع الكيفية التي هي جوهر النص، واولئك يطلبون «بناء شكليا» مفارقا لسياقه التاريخي والاجتماعي وهنا تضيع بنية الموقف وهي الدلالة النهائية لبنية التشكيل! وفي رأيي فإن مشكل الشاعر او المبدع ليس مشكل توصيل وانما هو مشكل تشكيل، انه لا يتوجه بمعنى مسبق يسعى الى توصيله وانما يثير في اللغة اداته الابداعية طاقاتها الخالقة حتى يكمل له التشكيل الجمالي الذي يوازي به رمزيا واقعه النفسي والروحي والاجتماعي. من هنا تصبح بنية الموقف دلالة نهائية لبنية التشكيل ولا يستطيع أحد حتى المبدع نفسه أن يتبين هذا الا بعد تشكيل نصه. ولذا أقترح استبدال ثنائية الشكل والمضمون بثنائية اخرى هي التشكيل والموقف، فالنص الادبي هو تشكيل جمالي لموقف دون أن تنفصل البنيتان.
* اذا انتقلنا من دائرة التخصص إلى دائرة ارحب وهي الثقافة العربية ككل وباعتبارك واحداً من الرموز الفكرية المهمومة بمستقبل الثقافة العربية.. لماذا تتهم ثقافتنا دائما بالعجز والتخلف؟
الثقافة العربية واحدة من اعرق الثقافات وورثت ابنية ثقافية عظمى وتفاعلت مع قوميات واعراق متعددة، حول النيل والفرات وفارس والهند واليونان. هذه الوراثة وهذا التفاعل جعلها الثقافة الرائدة في العصور الوسطى. ولم يحدث العجز والتخلف الا حين جمدت هذه الثقافة وكفت عن التفاعل، بل واهدرت مراحل عزيزة من تراثها بمثابة ذخيرة للامة، ويذكر مؤرخ العلم العظيم جورج سارتون انه مر حين طويل على البشرية مداه 7 قرون لا يذكر فيه عالم الا وهو عربي مسلم.
الان توقف مشروع تحديث الثقافة والمجتمع ككل، او كاد ان يتوقف تحت ضغط السلطات الشمولية والبيروقراطية التي تقف ضد التعددية الاجتماعية والفكرية وتحرم القوى الاجتماعية من التعبير عن نفسها باستثناء الفئات المستفيدة. هذه الشمولية في ميدان الثقافة على وجه الخصوص تعتمد على الانتقائية فتنتخب من فكر الامة ما يبرر مواقف بعينها، ومن هنا تغترب ذخائر تراثنا الثقافي تحت وطأة ثقافة منتقاة ومزيفة ومريضة.
* وكيف الخروج من هذا المأزق؟
من أجل النهوض الثقافي العام لابد من تصفية شمولية القوى المتناكرة والمتناحرة واستبدالها بتطور ديموقراطي «سلمي» حتى تسطع كافة العناصر المكونة لموروث الجماعة وتشرق ابداعية معاصرة متخلصة من الحصار والمصادرة.
* وما مدى قدرة الخطاب الثقافي الراهن على الدخول فيما يسمى بالعولمة؟
لم تعد الثروة ممثلة في الارض الزراعية كما كانت إبان الحضارة الأولى ولا في رأس المال كما كانت إبان الثورة الصناعية، فنحن نرى الثروة الآن مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمعلومة.
اي لم تعد ممثلة في سلعة متناهية وانما في معلومة غير متناهية.. نحن الآن مقبلون على اللامتناهي، فمثلا في مجال الطاقة يسعى البحث العلمي حثيثا لاستخدام الطاقة الشمسية لانها لا تلوث البيئة وايضاً لا تنتهي. في هذا الاتجاه يأتي جدل الثقافات كأمر مفروض أردنا أو لم نرد، ولن يكون لنا صوت مسموع إلا بما نملكه من ثورة الاتصالات، واعتقد أننا كعرب في مصر أو الخليج العربي لدينا المقدرة الفنية والتقنية بما يجعلنا نشارك وأن نقدم خطابا عربيا متميزا. خاصة بعد أن تبدلت صيغة الانا/ الآخر من علاقة عداء او استعمار أو قوة وضعف إلى صيغة أنا مع الآخر في حوار مشترك يرتكز بالاساس على مقومات ثقافية وانسانية. وهذا يساعد على هزيمة العنصرية والعرقية والاستعلاء والدونية وكل ما يجذب الانسان إلى التخلف أو الانغلاق.
* مثل هذا الطرح يعني أن فكرة الوحدة بين البشر والتصالح بعد العداء أمر ممكن.. وليس الأمر مجرد يوتوبيا خيالية؟
يمكن القول إن البشرية عرفت ثلاث ثورات كبرى، الأولى ثورة زراعية محلية ارتبطت باحواض الانهار الكبرى ثم صارت عالمية فيما بعد.
ثم الثورة الصناعية وهي اقليمية ارتبطت على نحو مباشر باقليم غرب اوروبا ثم صارت عالمية. وكلا الثورتين لم تمنع التناقض البشري وصراع الثقافات والقوميات، بل لقد تغالت الثورة الصناعية وكبدت البشرية خسائر فادحة من خلال حربين عالميتين في أقل من ثلاثة عقود وأوقفت البشرية على حافة الدمار والفناء.
الآن نحن نعيش في الثورة الثالثة ما بعد الصناعية أو ثورة الاتصالات والمعلوماتية وهي تقدم ملامح جديدة لمستقبل البشرية، فمثلا تسعى للقضاء على التلوث وتنظيف البيئة ليحل الوئام بين الانسان والطبيعة. وكذلك هي تؤكد على أن وحدة البشر «هي الأصل» وأنها ممكنة مع التقدم التكنولوجي الهائل. فالتناقض البشري/ البشري ثمرة لشروط تاريخية وثقافية يمكن فهمها وتجاوز آثارها. فعلى سبيل المثال غالت الثورة الصناعية في تفتيت المعرفة الى دوائر تخصصات ضيقة ودقيقة الآن هناك محاولات للتجميع والتأكيد على وحدة المعرفة وتقويض هذا التفتت بما يتضمنه من ثنائيات متعددة: الطبيعي / الانساني.. التجريبي/ الفلسفي.. وهكذا.. كذلك وبناء على ما سلف يمكن أن تحقق وحدة الابداع، بمعنى أنه يصبح نشاطا انسانيا واحداً ينهض على قاعدة واحدة لحركة المبدع وعلى قاعدة واحدة لحركة المتلقي، في اطار من التعددية التي تتجه بنا نحو أفق لامتناه.
شريف صالح
|
|
|
|
|