| عزيزتـي الجزيرة
قدمت الى الرياض قبل قرابة نصف قرن من الزمان برفقة العائلة لننضم الى الاخوة الكبار المتواجدين فيها طلبا للمعيشة وبحثا عن مصادر الرزق وكانت آنذاك ليست بالمدينة الكبيرة الموحشة ولا بالمدينة الصغيرة الوادعة أغلب بيوتها من الطين وقليل من الاسمنت المسلح وكان عدد الحارات والشوارع فيها محدوداً السكان قد لا يتجاوزون المائة الف وقليل منهم من الاخوة الأشقاء من البلاد العربية المجاورة.
كان يشقها من الشمال الى الجنوب مجرى السيل بالبطحاء كما يشق قلبها الان طريق الملك بنفس الاتجاه وشتان بين المقارن والقرين في ضخامة الأخير وجماله وحدائقه الغناء وحبذا لو استحدث على شاكلته عدد من الطرق تشق قلب العاصمة من جميع الجهات لاستراح الناس من عناء زحمة السير في الرياض وما تسببه من ضغوط نفسية وحرق للأْعصاب واضاعة للوقت.
في ذلك الوقت كان عدد المدارس محدودا ولم يكن هناك مدارس للبنات ولم نكن نفكر أو نحلم بشيء من هذا القبيل وبالطبع لم يكن هناك شيء اسمه جامعات او مستشفيات كبيرة اللهم ربما ما كان يعرف بمستشفى الشميسي «مجمع الرياض الطبي حاليا» درة المستشفيات وفخر مدينة الرياض لانجازاته العظيمة وخدماته الجليلة حتى اليوم لاهالي مدينة الرياض بل مواطني المملكة عموما والمقيمين فيها ومن ينشدون العلاج من خارج المملكة فهو بحق درة الاستشفاء منذ نصف قرن ويستحق التكريم على صموده واستمراره في أدء خدمات لا غنى للأحياء عنها.
كان القليلون ينعمون بنعمة الكهرباء والبعض يرى أسلاك الكهرباء تتدلى على جدار مسكنه فيسحب منها سلكا صغيراً للاضاءة لأن غالبية المساكن تستخدم الكهرباء لاضاءة عدد محدود من اللمبات فلم يكن هناك ترف الثلاجات والغسالات ناهيك عن الفريزرات ومكائن الطحن وآلات العصير وكوي الملابس حيث كانت غالبية الناس لا تعرف من الفواكه الا الحبحب والشمام والعنب والرطب في مواسمها.
كان الماء يصل الى المنازل بواسطة الزفة وكانت الناس هانئة قانعة غير مكتئبة ولا متململة أو متوترة ولا جشعة ومتواصلة مع بعضها البعض لا كما هو حاصل الان من التنافس والتكالب على الدنيا وضيق الصدور وتبرم النفوس وانتشار الحسد والضغينة.
كان عمود برقية اللاسلكي قبلة مسجد العيد في شارع الملك فيصل بالرياض يعتبر العلامة البارزة آنذاك لهذه المدينة التاريخية العتيدة وكان ناطحة سحابها وموعد لقاء من لا يهتدى الى مسكن قريبة في الجوار.
كان الهاتف (أبو هندل) موجود لدى قلة من الناس وتطلب الرقم للحديث مع الطرف الآخر عن طريق البدالة.
كنت في هجعة الليل تسمع صوت نواعير نزح المياه من الآبار وتطرب لصوتها الشجي ونسمات صبا نجد تداعب محياك وأنت متمدد على سطح بيتك الطيني المتواضع وكنت تسمع صوت العصافير تشقشق وتزقزق في صباحك الباكر معلنة ان لا وقت لمزيد من النوم وأن يوما جديدا قد أقبل.
اليوم تغير كل ما كان. أصبحت الرياض مدينة أخطبوطية جميلة وموحشة تعج بالحركة على مدار الساعة وتغص بالبشر من كل حدب وصوب وتمتلئ بالمدارس والمستشفيات والجامعات ولا ننسى المطاعم والمشاغل والجوالات والخدم والسائقين وكل ما يخطر ببالك وما لا يخطر وازدادت قلوب الناس قسوة ووحشة وتباعد وريبة. كثرت الاحياء السكنية فيها والمخططات والاستراحات فتمددت في كل اتجاه الى درجة أن ساكنيها يضيعون فيها ولا يعرفون كثيراً من أسماء الأحياء وعددها التي اعتقد انها تجاوزت المائة والستين وربما سوف تبلغ المائتين قريبا جداً وقريبا سوف يتجاوز سكان هذه المدينة العملاقة الاربعة ملايين نسمة والتي تمتد على رقعة أرضية تتجاوز الاربعين في اربعين كيلو متراً مربعاً تقريباً.
إن كل حي من هذه الأحياء يزيد عن مساحة مدينة متوسطة من مدن المملكة المترامية الاطراف وهذا يضع عبئا ثقيلاً على الدولة والمخططين والقائمين على اصلاح شأن هذه المدينة بتوفير البنية الاساسية والخدمات الضرورية لسكان هذه الاحياء التي تنبت كالمشروم.
الناس بطبعها عجولة ونفوسها مجبولة على حب الخير وطلب بل استعجال ما يرون انه يخدم مصالحهم ويخفف من عنائهم ومعاناتهم وجميل ان يحب ويتمنى الانسان ان يرى بلاده وقد أصبحت عنوان ومضرب المثل في النظافة والازدهار وتحقيق أعلى معدل في التعليم والاستشفاء ورقي العيش.
يوجد في كل مخطط وحي جديد مساحات كبيرة من الاراضي يتم تخصيصها للمدارس والمساجد والحدائق تسمى اراضي المرافق العامة وان كانت تختفي في بعض الاحيان(!).
شاءت إرادة الله ان يكون من نصيبي الاقامة في (حي الرحمانية) قبل أن يكون (فولة وانقسمت نصين) كما يقول اخواننا في القطر المصري أي الرحمانية الشرقية والرحمانية الغربية.
قدمت الى هذا الحي الوادع الصغير قبل قرابة ربع قرن من الزمان من مسكننا الطيني في منطقة البطحاء وكان عدد الساكنين به قليل ويعج بالاتربة وحركة البناء وكان به مدرستان ابتدائيتان مستأجرتان واحدة للبنين واخرى للبنات وبعد سنوات قليلة قامت وزارة المعارف مشكورة ببناء مدرسة ابتدائية للبنين على مساحة كبيرة من الارض كان الاجدر بها ان تقيم عليها مجمعاً مدرسيا متكاملاً وللأسف ربما بسبب الاعتمادات المالية لديها قامت ببناء مدرسة ابتدائية من فئة المدارس القروية المتواضعة تنقصها أشياء كثيرة من مقومات المدرسة العصرية ويشكل تصميمها في الدورين الاول والثاني خطورة على الاطفال نظراً لقصر السواتر بها ناهيك عن تسمم صدور الطلاب بالتلوث من الغبار وخلافه مع ضعف في الصيانة لدورات المياه المدرسية عموما وانقطاع الماء في بعض ايام فصل الصيف وما يحدثه ذلك من معاناة للطلاب والمدرسين وعدم توفر الاشجار ليتفيأ الطلاب في ظلالها في حمارة القيظ، ولتضفي مسحة من الجمال وعندما ارادت وزارة المعارف فتح مدرسة متوسطة بهذا الحي بعد مطالبة والحاح الأهالي قامت مشكورة بأخذ جزء من المدرسة وأسمته متوسطة حنين وكأن المدارس عبارة عن غرف صغيرة وبها كراسي هزيلة قديمة وحشر لفلذات الاكباد وتلوث بيئي فلماذا لا تتدارك الان وزارة المعارف هذا الوضع المأساوي وتقيم مجمعاً مدرسياً نموذجياً مكان هذه المدرسة الهزيلة وهذا النظام معمول به في القرى والمدن الصغيرة وأحياء مدينة الرياض أكبر وأولى وان غدا لناظره قريب!
أما الرئاسة العامة للبنات فقد تحركت بعد وزارة المعارف بسنوات وأنشأت مدرسة ابتدائية نموذجية للبنات بتمويل من شركة الراجحي على جزء من الأرض المخصصة لها وأبقت جزءا كبيراً من الارض تذروه الرياح والى يومنا هذا وبناتنا وابناؤنا يتفرقون منذ ربع قرن شذر مذر بين الاحياء طلبا للعلم وهذا يأخذ منا وقتا وجهداً كبيراً للذهاب والاياب بهم ويساهم في ارباك حركة المرور وتلوث البيئة وضياع الوقت والجهد والمال فمتى تسعدنا الرئاسة هي واختها وزارة المعارف بأبنية شامخة جميلة تضم جميع الفئات العمرية من الطلاب والطالبات ولا نقول إننا نحلم برياض أطفال لأن وزارة المعارف لم تدرجها في قاموسها التعليمي بالمعنى الصحيح المتكامل بعد وكذلك الرئاسة الا ما قل وهو أمر سبقتنا اليه حتى بعض الدول النامية مع الأسف.
عثمان بن عبد المحسن المعمر
|
|
|
|
|