| شرفات
تحترف اعتدال عثمان لغة الإبداع منذ ما يزيد عن عشرين عاما لكنها مقلة جدا ولا تخرج نصا جديداً إلا في لحظة ألق خاص. إنها مبدعة حقيقية تعلن عن نفسها من خلال نصوصها:
«يونس البحر» و «وشم الشمس»، وليس من قبيل المبالغة أن نقول إنها من الكاتبات الرائدات لما يسمى بالقصة القصيرة أو الكتابة عبر النوعية. إنها ناقدة تعرف شروط الإبداع القاسية ومبدعة تطرح في كتابتها النقدية رؤى جديدة وإمكانات أخرى للإبداع. وبين هذا الدور وذاك تمارس هواية الصمود وراء نجاح العديد من الدوريات الثقافية مثل «فصول» ثم «سطور» في زمن عزّ فيه الاهتمام بالمنتج الثقافي:
ندرة الإبداع
ü يلاحظ أنك مقلة في الإبداع إلى حد كبير، فعبر ما يقرب من عشرين عاما لم يصدر لك سوى عملين هما «يونس البحر» و «وشم الشمس»؟
الإبداع بالنسبة لي هو الهوية الحقيقية اللصيقة بكياني الإنساني، وكل ما عداه يغذي هذا الكيان، فالنقد مثلا بمعناه الواسع أي النقد الأدبي والثقافي، يبلور الخبرة الذهنية والإنسانية بهدف أن تحقق إبداعا في لحظة ما. لا أعرف متى تفرض هذه اللحظة نفسها بقوة دفع لا أملك أمامها سوى الكتابة لكنني أعرف أنني لا أعتسف هذه اللحظة، وإنما أتركها تنضج على مهل، وأترك تفاعلي مع الخبرة المعاشة يترسب داخلي ويمر بمراجعة ومساءلة مستمرة.
هناك توتر دائم بين تفاعلي مع الحياة واكتساب الخبرة وتكثيف ذلك كله في عمل إبداعي أرضى عنه وأشعر أنه إضافة حقيقية للمجال الأدبي ولما نشرت بالفعل.
ولكوني ناقدة، أمارس نقد الذات بقسوة لأنني أعرف مزالق الثرثرة الأدبية غير المجدية أو الكتابة في المكتوب الذي لا يقدم جديداً . فضلاً عن مزالق الافتعال لمجرد التواجد على الساحة الأدبية. فالإبداع يحتاج الى شغل دؤوب على الذات يغوص فيها عميقا دون انفصال عن الواقع لكي يستخرج تجربة إنسانية لها خصوصيتها ولها تفردها الفني بينما تحمل في الوقت نفسه هموم الوطن والناس.
مجايلة!
ü بحكم بداية النشر تنتمين ككاتبة الى جيل الثمانينيات.. فهل تقبلين فكرة المجايلة؟ وأين تضعين نفسك كأديبة وناقدة؟
من حيث المجايلة، أتمنى لجيل الستينيات، أعني الجيل الذي حلم بمشروع نهضة عربية تمس أوجه الحياة وتتمسك بالعزة والكرامة الوطنية. وهو أيضا جيل الانكسارات والمتراجعات الكبرى بعد هزيمة 67 والإحساس بمسؤوليته الثقافية تجاهها.
صحيح أنني بدأت النشر في مطلع الثمانينيات، وبسبب عدم اقتناعي بأن مفهوم المجايلة يعني الإنغلاق في تيار أدبي بعينه، بحكم التقارب في العمر والتكوين الذهني والوجداني، فقد أقدمت على تقديم قراءات نقدية لمختلف التيارات الأدبية. اختياري يقوم دائما على القيمة الأدبية للنص المنقود من حيث تجاربه مع اهتماماتي وعمق الرؤية وبراعة التشكيل الجمالي بما يحدث نوعا من الاختراق المعرفي والجمالي لما هو سائد ومتعارف عليه في المتن الأدبي المركزي وذلك بصرف النظر عن انتماء الكتاب والكاتبات الذين تناولت أعمالهم، تصوري للقيمة الأدبية هو دافعي لكتابة النقد وقد ساعدني على ذلك عملي في مجلة «فصول» التي أرست منذ بداية الثمانينيات نقلة معرفية مهمة على مستوى الفكر النظري وأدوات تحليل النص في النقد التطبيقي.
يونس البحر
ü بالنسبة لعمليك: «يونس البحر» و «وشم الشمس» يقال إنهما يتسمان بالغموض والمزج بين الشعري والنثري؟
مجموعة «يونس البحر» كانت انفجارا إبداعيا اتسم بالجرأة لصوت أدبي يحاول شق طريقه بصدق وعمق لمس القراء وقوبل بترحيب نقدي، برغم التباسه أحيانا بالغموض والتهويم اللغوي.
فالبداية وضعتني بين زملائي من الكتاب المجددين، أولئك الذين يبحثون عن صوتهم الخاص ويعشقون اللغة ويعيدون تحديد انتسابهم الى التراث من منظور الرؤية المعاصرة.
وفي مجموعة «وشم الشمس» يظهر تنوع أكبر يجمع بين الفانتازيا والواقعية النقدية، وتفاعل لنصوص من التراث الشفاهي والمكتوب ممتزجة بصوتي الخاص كامرأة عربية وكإنسان أعيش محنة التاريخ والوطن العربي الكبير.
أظن أن التجربة حققت قدرا ملحوظا من النجاح بدليل اختيار أعمالي ضمن مجموعات تقدم إبداع المرأة العربية كنماذج تحتفي بأدبية النص في المقام الأول وليس لأن كاتبته امرأة، لذلك أشعر بمسؤولية مضاعفة إزاء ما أكتب. وكناقدة أجدني مقلة بصورة لا تقلقني إلا بمدى قدرتي على طرح الأسئلة ومقاومة الواقع المتردي. فهذه الأسئلة طموح يتملكني للمعرفة، والمقاومة إرادة للتماسك الداخلي، وكلاهما شرط لانطلاق طاقات الابداع في لحظة ما.
نسوية ولكن..
ü بشكل أكثر دقة .. هل تنطلقين في رؤيتك الإبداعية من خلال ما يسمى الكتابة عبر النوعية أو القصة القصيرة؟
لا أبدأ الكتابة بتصور جاهز لشكل فني بعينه، وإنما تبحث الرؤية طوال الوقت عن الشكل الذي تلتحم به وتتجلى من خلاله بمعنى أن الرؤية تفرض منطقها الخاص الذي قد تمتزج فيه اللغة الشعرية بآليات القص المنثور أو يلتزم القص بالسرد الواقعي كما حدث في القصة الطويلة «مرايا الرمال» من مجموعة «وشم الشمس».
أما تداخل الأنواع أو القصة القصيرة، فحقيقة أدبية قد أكون أسهمت فيها بقدر لكنني لا أدعها تحد من طبيعة الرؤية والشكل المناسب لها.
ü بالنسبة لمشروعك النقدي هل يمكن القول بإنه ينطلق من رؤية نسوية؟
النقد أتاح لي الدخول الى عوالم إبداعية ثرية بالرؤى وجمالية التشكيل الفني، أي أنه زودني بحيوات مضافة الى حياتي، عشتها كلها برغبة هواية المعرفة ومحاولة اتقان الناقد المحترف. أما عن المنظور النسوي، فأنا لا أتنصل من كوني امرأة تواجه مواصفات الثقافة العربية تجاه المرأة بكل ما لها من حقوق وما عليها من واجبات.
المهم هنا أننا لم نتخلص بعد من النظر الى المرأة بوصفها موضوعا تسقط عليه مواصفات عقلية ونفسية تحدد حيويتها الثابتة.
والحقيقة أن الهوية، بالنسبة للرجل والمرأة معا مسألة يتم تشكيلها اجتماعيا وثقافيا، ومن ثم يمكن تغييرها بتغير الواقع ليصبح كل منهما، أي الرجل والمرأة، كيانا مستقلا وإنسانيا، لايتخلى عن خصوصيته ودوره وإنما يتفاعل مع الآخر تفاعل الأنداء الأسوياء، دون سيطرة من جانب وخضوع من جانب آخر.
من هذا المنطلق أتناول الأعمال الإبداعية بالنقد وأتمكن أحيانا من كشف التناقضات التي نعاني منها جميعا من خلال تحليل النصوص ولا أستثني نفسي من ذلك.
مجلات ثقافية
ü منذ سنوات عملت كمدير تحرير لمجلة ثقافية رفيعة المستوى هي «فصول» التي تصدر عن هيئة الكتاب، وحاليا ترأسين مجلة ثقافية متميزة هي «سطور» ماذا تعني لك تجربة سطور على وجه التحديد؟
عملي في مجلة «سطور» يتوافق مع تصوري لدور المثقف الذي يحترم العقل ويحترم القراء ويحفزهم لأعمال التفكير في أزمات الواقع دون مساومة أو مزايدة على قضايا وطننا العربي. وبرغم تراجع قيمة الثقافة والصعوبات المادية الهائلة التي نواجهها، فإننا فريق عمل صغير لكن طموحنا الثقافي غير المحدود يدفعنا للتمسك بالكلمة الجادة والمعالجة الموضوعية والإخراج الفني المتميز حتى لو اضطرتنا الظروف لضغط الإنفاق لكن دون تنازل عن منطلقاتنا الأساسية، بل إننا نأمل في توسيع دائرة القراء والوصول برسالتنا الى أقصى مدى ممكن عن طريق النشر الإلكتروني.
ü وهل تؤيدين دخول رأس المال الخاص الى حلبة إصدار المطبوعات الثقافية وما مدى تأثير ذلك على حرية التعبير؟
من الطبيعي أن يحاصر الهامش المتاح لحرية التعبير الجاد المسؤول في واقعنا العربي المحاط بكل أنواع المحاذير، بل إن هذا الهامش يضيق بصورة مستمرة أو ينحصر في خدمة مصالح جهات حكومية أو حزبية تعبر عنها هذه المطبوعة أو تلك. لكنك تجد أيضا من بين أصحاب رأس المال الخاص من يؤمن بقيمة الثقافة والمهمة التي يمكن أن تقوم بها الصحافة الثقافية في إنتاج المعرفة وتسليط الضوء من منظور نقدي وطني، على أسباب التدهور الذي نعيشه، ومحاولة البحث أيضا عن حلول لمأزقنا الحضاري الراهن. و «سطور» أحد المشروعات الثقافية الملتزمة بالضوابط التي ذكرتها الآن والتي نجد أمثلة أخرى لها على امتداد الوطن العربي يبذل القائمون عليها جهدا مضاعفا للاستمرار. وحتى لو توقف المشروع أو تعثر لأسباب مالية، وهذا احتمال وارد طوال الوقت، فيكفي أنه حقق نقطة مضيئة في سجل الصحافة الثقافية.
|
|
|
|
|