| شرفات
تختلف أسرة المشايخ في قرية برنبال عن أسر الفلاحين، فمن أصلابها ينحدر خطيب الجامع ومأذون القرية. من هنا توسم الشيخ مبارك في ابنه «علي» الوحيد على سبع بنات ان يرث الخطابة والافتاء في قريته، أملا في حياة كريمة تختلف عن حياة الفلاحين تحت خط الفقر والمرض.
ذهب علي الى كُتّاب شيخ ضرير اسمه «أبو عسر»، وهو ابو عسر فعلا، اذ جعل الصبي يكره العلم والتعليم ويحب الفرار. آنذاك لم يلتفت الأب كثيرا لمأساة ابنه، لأن الأسرة كلها كانت في مأساة أشد، فغلة الارض لم تف بالضريبة فانتزعت الأرض وبيعت البهائم بثمن بخس، واضطر الشيخ مبارك الى الرحيل من بلد الى بلد.. الى ان نزل ضيفا على عرب السماعنة بالشرقية، وهناك اعطوه خيمة مثل خيامهم، فلما استقر به المقام صار اماما وفقيها لهؤلاء الناس الطيبين.
وسأل الشيخ عن اقرب قرية من خيام العرب ليرسل عليّا الى كتابها، فدلوه على كتاب الشيخ «أبو خضر». الكتاب بعيد والصبي لا يستطيع ان يذهب ويعود كل يوم، فاضطر للاقامة المستمرة مع سيدنا عدا الخميس والجمعة.
لم يختلف عنف الشيخ «أبو خضر» عن عنف الشيخ «أبو عسر» قديما.
وزادت مشاعر الصبي كرها على كره وقال انه لن يذهب بتاتا الى الشيخ اي لن يكون خطيبا أو مأذونا في المستقبل حاول ابوه وحاولت اخواته ان يثنوه عن هذا القرار، فأملهم الوحيد ان يصبح علي شخصا يقرأ ويكتب.
قال علي انه سيتعلم من الحياة واتفق مع أسرته على حل وسط، التحق بالعمل مع طبقة صغار الكتاب الذين يكتبون الشكاوى ويمسحون الأراضي أي انه قرر ان يبدأ طريق الكفاح كصبي باشكاتب! لكن العنف هو العنف، نفس السيف المسلط على روحه الغضة، فالباشكاتب الكبير لم يتورع عن ضرب صبيه وشج رأسه لانه لم يفلح في حل مسألة حسابية بسيطة.
كان عليه ان يهرب من العمل.. يهرب من وجه أبيه.. الشيء الوحيد الذي تعلمه هو الفرار.. الهروب الى المجهول هائما على وجهه بين بلاد لا تعرفه ولا يعرفها. صبي اسمه علي في الثانية عشرة من عمره ينبش وجه المجهول بحثا عن مصيره من هو؟ وماذا سيكون؟! أصيب بالكوليرا ونجا بأعجوبة.. قبض عليه ثم افرج عنه.. وفي نهاية مشوار الضياع عمل ككاتب صغير عند موظف كبير اسمه عنبر أفندي مأمور زراعة القطن بأبي كبير.
عنبر أفندي حبشي أسود لا يشبه الأتراك البيض، فكيف وصل الى هذا المنصب؟ وما المانع ان يصبح مثله في يوم من الأيام؟ وحكى له زملاؤه من الخدم ان عنبر أفندي كان عبدا مملوكا لسيدة من كبرى سيدات مصر، عطفت عليه وأدخلته مدرسة قصر العيني فتعلم الخط والحساب واللغة التركية.. اذن هناك مدرسة تختلف عن الكتاب ومنها يتخرج الحكام وكبار الموظفين، لكن اين مدرسة القصر العيني هذه؟ وكيف يذهب اليها؟
قالوا له ان كل ما عليه ان يلتحق بأحد الكُتَّاب وان يكون نابها، ثم عليه ان ينتظر حتى يمر المفتش الذي يختار النابهين للدراسة بالقصر العيني.
ترك علي وظيفته الصغيرة والتحق بأحد الكتاب عن قناعة تامة لاول مرة.. ينام ويصحو على طيف المفتش يداعب احلامه ويتطلع الى الصبيان النابهين ثم يختاره دون غيره.
وتحقق الحلم.. اخيرا ابن الشيخ مبارك، الفلاح البسيط، اصبح تلميذا في مدرسة القصر العيني.. لكن ما اشبه المدرسة بكتّاب الامس، لم يجد بها هندسة ولا حسابا، وكل الوقت ينفق في تعليم المشية العسكرية واعطاء الاوامر! حتى الاكل لم يعجبه هو الفقير القانع، فداوم على اكل الجبن والزيتون من مصروفه الخاص وكاد الحلم ان ينهار حين اصيب بالجرب نتيجة قذارة الفراش، وعلم الشيخ مبارك بشقاء ابنه في المدرسة، فجاء طالبا اعادة ابنه الى حياته الاولى. بل حاول ان يسرقه حين رفضوا وافهموه ان من يفر من المدرسة يعذب هو وأهله عذابا شديدا.
تعليم بالعنف والاكراه وعليه ان يتحمل مرغما، الى ان اخليت مدرسة القصر العيني لتصبح قاصرة على تعليم الطب، فالتحق علي مبارك بمدرسة الهندسة بأبي زعبل، وهناك تلقى اول تعليم حقيقي له قيمة، ثم غادرها الى الدراسة بالمهند سخانة ببولاق ولأنه انتظر هذه الفرصة طويلا وعاش شبابه مغتربا عن اهله لم يتوان في التحصيل واظهر نبوغا اهَّله للسفر في بعثة لدراسة الهندسة بباريس.
في باريس اساتذة ومهندسون اجلاء لكن عيبهم الوحيد انهم لا يعلمون كلمة عربية واحدة ويرطنون بما لا يفهم! وهو نابه لكنه بالمثل لا يفقه كلمة واحدة بالفرنسية التي بعث للدراسة في مواطنها لا بأس، جمع الكتب التي تدرس للاطفال الفرنسيين وبدأ يتعلم منها اللغة على مدار ثلاثة اشهر متوالية.
وبعد اغتراب خمس سنوات في باريس عاد علي مبارك استاذا في الهندسة المدنية والحربية ليفاجأ بأن التعليم انكمش كثيرا في عهد عباس الاول وكان من المفترض ان يتقدم الى الامام خطوة.. والمؤسف ان الحصول على وظيفة مرموقة ليس رهنا بالمستوى العلمي الرفيع وانما هو رهن باشارة من اصبع الحاكم.. رهن باجتياز الدسائس التي تحاك فترفع وتذل.. فهذا الخديو قرّبه وقلده المناصب وذاك اقصاه وابعده الى الاستانة فهل يُعقل انه كان يدرس الهندسة ليعمل بالفرقة العسكرية المعاونة لتركيا في حربها مع روسيا؟
رضي علي مبارك بالمنفى الى ان عاد الى الوطن.. الى الوظائف غير المأمونة.. ولأنه بخبرة الصبا تدرب على ان يعمل بيديه ويأكل من عرق جبينه، قرر استاذ الهندسة ان يعمل تاجرا في المزادات ولا بأس من تصميم احد البيوت حسب الطلب، وتسير الايام على هذه وتلك الى ان يرضى عنه الحكام ويستعينون به مرة اخرى.
ولأنه بنّاء عظيم كان ينسى الاساءة ويستكمل المشوار.. يخطط الشوارع ويشق الترع ويقيم المساجد والمدارس.. انشأ مدرسة دار العلوم ودار الكتب المصرية ووجه عناية فائقة للاهتمام بالجوانب الادارية من ملبس ومأكل وانضباط، واعاد تنظيم الكتاتيب عن قناعة منه بأن العنف اسوأ معلم للطفل ومن حيث انتهت خطط المقريزي بدأ علي مبارك كتابه الفذ الخطط التوفيقية راصدا ملامح الوطن في زمن التحولات.
اخيرا تجاوز حلم الاب في ان يصبح مأذونا للقرية وصار وزيرا للمعارف.. اخيرا تجاوز دسائس القصر وصار ابا للتعليم بعد كفاح السنين، لأنه كان يؤمن بالتعليم كأداة للتغيير الحقيقي.. ومن نوادره انه اقام في منزله صالونا للفكر، يلتقي فيه طلاب المدارس يستفيدون من علمه ويتناقشون مع بعضهم البعض وحدث ان مر به مصطفى باشا رياض رئيس الوزراء فتعجب من الجلبة الشديدة، فأجابه علي مبارك موضحا يا دولة الرئيس اننا في بلد يهاب فيه الناس ان يخاطبوا معاون ادارة او اي موظف حكومي، فاذا نحن جرأناهم علينا وخاطبناهم وخاطبونا، امكنهم ان يخاطبوا الموظفين في غير هيبة، وتعودوا ان يطالبوا بحقوقهم وقالوا: انا نجالس الناظر «الوزير» ونخاطبه، فلم لا نخاطب من هو اقل منه منزلة.
يفهم من هذا انه صاحب رؤية في التعليم لا في السياسة فدائما لم يكن بارعا في حلبة السيرك السياسي وحين انهار مشروعه بعد الاحتلال البريطاني لم يستطع ان يتكيف مع شروط الاحتلال فترك الوزارة، ولم يعول كثيرا على الثورة العرابية فترك القاهرة بأسرها وعاد الى قريته الصغيرة برنبال.
لا يدرى ان كان مشروعه وصل الى طريق مسدود ام ان العمر ولى في غفلة منه! ومرة اخرى، عاد يزرع ارضه بيديه واعتزل الناس بعد مرارة الكفاح ليقضي ايامه الاخيرة في هدوء تام، ليقضي الاجل قبل ان يشهد ميلاد اول جامعة مصرية بعد رحيله بسنوات معدودة.
شريف صالح
|
|
|
|
|