|
| أفاق اسلامية
* تحقيق/ بدر بن عبدالله الربيعان
اقترن قبول العمل بشرطين أولهما الإخلاص وثانيهما المتابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلو أمعنا النظر لوجدنا أن الإخلاص ركيزة أساسية ولكنها مع الأسف في وقتنا توضع في آخر الاهتمامات ولا نبالغ إذا قلنا إنه قل قرن العمل بالإخلاص، مع أن الإخلاص في العمل من أخص المعروف الذي أمر به الشارع الحكيم فمع الإخلاص يتحول من العدم إلى تحصيل الثمرة التي تتطلب وتحفز على المزيد.
وفي المقابل انعدام الإخلاص يعد من أخص المنكر الذي يضع العمل في حيز الرياء المنهي عنه الذي يذهب الأجر كما يفعل الهواء بالغبار.
وانطلاقا من أهمية هذا الموضوع في ديننا الحنيف الذي أغفله كثير في أعمالهم وفي أقوالهم وفي كتاباتهم تناقش الرسالة هذه الموضوع بهذا التحقيق سعياً للمعالجة الوافية.
الأهمية
وقد تحدث للرسالة عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم د. صالح بن عبدالله المحطب حول موضوعنا فقال: قد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذه الحياة لمهمة عظيمة وغاية نبيلة وشريفة، وهي عبادته عز وجل والتقرب إليه، عبادته بمفهومها الواسع الشامل الذي يعني كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ولكي تكون لك العبادة مقبولة عند الله ومؤدية الغرض منها في الدنيا لا بد أن يتحقق فيها شرطا العمل الأساسيان وهما الإخلاص فيها لله عز وجل والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى :(..الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وفسر حسن العمل بأخلصه وأصوبه.
ودعا إلى تحقيق الإخلاص في كل عبادة والبعد عما يضاده وينافيه من الرياء والسمعة والعجب بالنفس وحب الظهور والشهرة وإن كان أمراً بديهياً لدى كل مسلم والحمد لله إلا أنه يبقى نظرياً عند كثير من الناس، فإذا باشره عملياً وقع في المحذور وغلبه الشيطان من حيث لا يشعر.. ولذلك يبقى الحديث عن الإخلاص من حيث فقهه واستحضاره في كل عمل يقوم به المسلم بحاجة ماسة إلى مزيد من بيان وتأكيد وكثرة طرق.
الإخلاص
وعرف فضليته الإخلاص بأنه كل ما يراد به افراد الله عز وجل بالقصد في الطاعة وتخليصها من كل ما يضاده أو ينافيه مستدلاً بقوله تعالى :(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء..) وقوله تعالى :(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) ، وأخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى :أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»).
وأشار إلى أن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومحاسبة مستمرة في سبيل حملها عليه والأخذ به في كل أمورها حيث يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله «ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي» ولما سئل التستري رحمه الله من أشد شيء على النفس؟ قال :«الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب.
مطلب عزيز
وأكد فضيلة رئيس هيئة محافظة المجمعة الشيخ ابراهيم الفارس: ان إخلاص الدين لله تعالى مطلب عزيز لا يناله إلا الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وإن أعمال الناس قد تتفق في ظاهرها ولكن تختلف في دوافعها وأهدافها، فالأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى والله تعالى لا يقبل من الأعمال والأقوال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم لا تشوبه شائبة رياء ولا نفاق، والناس لا يغنوا عن أحد من الله شيئاً قال الشافعي رحمه الله «لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل إليه فإن كان كذلك فأخلص عملك ونيتك لله عز وجل» والنية أمرها عظيم فإذا كان العمل يفتقر إليها ولم يرد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة، وسر قبول العمل هو الإخلاص فيه بل هو سبب عظيم للظفر بحب الله تعالى ورضوانه كما أنه سبب لتيسير الأمور ودفع الشرور وتفريج الكروب وانشراح الصدر وإجابة الدعاء والسلامة من عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، وخلاصة القول في ثمرة الإخلاص أنه يرفع شأن الأعمال فهو الذي يحمل الإنسان على مواصلة الخير وبذل المعروف بين الناس وهو الذي يدفع البائع والمشتري على النصيحة لكل مسلم وعدم الخيانة والغش في صنف البضاعة أو قيمتها وهو الذي يدفع ا لطبيب على بذل وسعه في الكشف على ا لمرضى وعلاجهم بكل دقة ورحمة وهو الذي يحمل الصانع والعامل على أن يوفي عمله ويتقنه حسب الاستطاعة ولو لم يكن هناك رقيب من البشر وهو الذي يحمل الموظف أياً كان مركزه على أن يؤدي عمله بكل حزم وقوة وأمانة، والإخلاص هو الذي يردع قلم الكاتب ولسان المتكلم عن قلب الحقائق أو يكسوها لوناً غير لونها إرضاء لشخص أو طائفة أو هوى في نفسه.
وقال فضليته كما أن الإخلاص هو الذي يحمل العاملين في الوظائف على القيام بأعمالهم حسب المطلوب منهم وعلى تولية الأعمال أكفاءها، ولذا فإن المسلم المخلص لا يكون لعمله أو قوله وجهان ظاهر وباطن ولكنه يعمل بوجه واحد ولسان واحد لغاية واحدة واذا لم يكن الإنسان مخلصاً كان مرائياً، والرياء من صفات المنافقين لكونهم (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً) يقول صلى الله عليه وسلم : (من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به) رواه البخاري وعند الطبراني (من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره) ولو لم يكن في الرياء إلا أنه من صفات المنافقين لكان جديراً بكل مسلم أن يحذره فكيف وهو محبط للعمل قال تعالى :(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) فعلى المسلم أن يخلص في نيته ويحسن قصده في عمله ويصلح سريرته وعلانيته.
الإخلاص والعامل
وأشار إمام وخطيب جامع علي بن أبي طالب بالأحساء الشيخ ابراهيم بوبشيت إلى أن كلمة الإخلاص تزلزل القلوب وتزرع ضرورة المحاسبة للنفس حيث يقول نعيم بن حماد: ضرب السياط أهون علينا من النية الصالحة مؤكداً أن تمكن الإخلاص من قلب العامل على أي جناح كان ولد آثار طيبة. فالإخلاص يولد لنا عاملاً صادقاً وعملاً متقناً لأن الرياء هلاك للعامل والعمل وخصوصاً أعمال البر ولا سيما الأعمال الخيرية كتعليم العلم ومنه القرآن والدعوة إلى الله تعالى وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالإخلاص هو مسك القلب، وماء حياته ومدار الفلاح عليه يقول تعالى :(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
وأضاف بوبشيت بقوله: ومن آثار الإخلاص أنه يحفظ العامل من الخيانة والتزوير وأخذ الرشوة لأنه يعلم أن الله رقيب عليه في كل لحظة،وعند ذلك يصبح العلم مباركا فيه، كما أنه يعين على توقد الهمة العالية وحب الابداع فالعامل المخلص سواء كان في أمر ديني أو دنيوي يحتاج لهذا. مشيراً إلى أن إمام المسجد مثلاً مناط به عمل هو من أهم الأعمال وهو تعليم الناس ونصحهم وتذكير الغافل منهم وإرشاد التائه وإعانة المسكين وسد فاقة البائس الفقير فضلاً عن إمامة الناس. فلو استحضر كل إمام دوره المناط به وأخلص العمل لله لرأينا آثاراً يانعة بإذن الله تعالى ولكن إذا كان همه آخر الشهر فأنى لمثل هذا من توقد الهمة وهمته كما قالوا عند آخر السورة.
وأشار إلى أن من آثار الإخلاص كذلك أن بالمخلصين ينصر الدين وبالمرائين يهزم الدين، وذلك بسبب عدم صدق العامل وعند ذلك أصبح العمل منثوراً، قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجات النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
ومن آثاره: أنك ترى المخلص لا يفتر عن العمل ولو كلف بمزيد لا يضجر لأنه يحتسب الأجر من الله أولاً قبل أن ينظر لزيادة خارج الدوام وإن كانت مطلوبة ولذلك تراه يعمل خارج الدوام بما له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالدوام وذكرني هنا بعمر رضي الله عنه في زمانه وابن باز في عصره فكان ابن باز نحسبه والله حسيبه وإلى آخر لحظات حياته وهو يعلم للدين يفكر ويعلم من كثرة أشغاله وأعماله ولم يعتزل الناس وعند ذلك حق أن يقال:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أسباب ودوافع
وعن الأسباب المعينة والدوافع المعينة للوصول للإخلاص أجملها الشيخ بوبشيت بالتالي:
1 عدم النظر للناس سواءً مدحوا أو ذموا ولكن النظر لرب الناس هل هذا يرضاه أم لا، كما قال السلف من علامات المخلص استواء المدح والذم عنده، قال أبو عثمان المغربي: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر للخالق فعدم الإخلاص من أسباب ترك الطاعة مما جعل العمل مرفوضاً كما أشار لذلك ابن القيم في الفوائد.
2 النظر إلى سير المخلصين عند ذلك تذكو الهمم وتشتعل العزائم وتثبت القلوب، وهذا مصداق قول الله تعالى :(وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) كما قال الجنيد رحمه الله تعالى.
يقول جرير: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره آثاراً لما كان يحمله على ظهره من الجرب لتوزيع الصدقات على الفقراء.
3 الخوف من الرياء خوف العصفور من الصقر فيخشى أن يرد عليه عمله ولذلك بكى السلف عند قوله تعالى :(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) قال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.
واختتم قوله ربما يطرأ الرياء على كل واحد منا ولكن ما أجمل المجاهدة الصادقة التي تحارب الرياء وتأصره على الحق . أصر قال تعالى :(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) رزقني الله وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
أثر الإخلاص في الأمر والنهي
وتطرق د. المحطب إلى أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلاً فهو من العبادات المهمة التي يتأكد فيها الإخلاص، لأن العمل فيها غالباً ما يكون بارزاً وظاهراً للناس، ولحظ النفس فيه نصيب، ومداخل الشيطان فيها على النفس كثيرة مشيراً إلى آثاره فيه والتي من أبرزها:
استجابة المعني بالأمر وقبوله الحق واذعانه له عن قناعة ورضا مع محبة القائم بالأمر أو النهي، وهذان الأمران الاستجابة ومحبة القائم لهما انعكاس ايجابي على المدعو وعلى الجهة المسؤولة اذا كان القائم به ينتمي إليها بشكل رسمي، والا فكل مسلم ينبغي أن يكون مسؤولاً حسب استطاعته.. بالحكمة والرفق واللين، وذلك أن القائم بالأمر أو النهي إذا رأى الاستجابة فرح بها لأخيه المسلم وبين له صحة مسلكه ونشاطه للاستمرار فيه، ومحبة المأمور لمن أمره أو نهاه تجعله يعطي انطباعاً وصورة مشرقة للآخرين عن الدعوة والقائمين بها، ويدافع عنهم من واقع تجربة.
واذا اختل ميزان الإخلاص لدى الآمر والناهي انعكس الأمر فأصيب هو بالاحباط والهزيمة النفسية، وأساء المدعو للدعوة ورجالها بسببه.. ولذلك صور أذكر منها:
أن الآمر والناهي إذا لم يستجب المدعو تحول الأمر عنده إلى انتصار للنفس ومحاولة تغلب على المدعو بحجة أنه محق واتبع ذلك تبادل ألفاظ الشتم والسباب بينهما.
أحياناً يكون بين الآمر أو الناهي والمدعو شيء من سوء التفاهم إما لعلاقات شخصية أو لامور دنيوية، فيستغل الأول الموقف للتشهير وكشف ما خفي خبره على الآخرين.. باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيؤول الأمر إلى تشف وانتقام.
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوف الرياء والسمعة هو خطأ وفهم منحرف لما يضاد الإخلاص.. وصح عن الفضيل بن عياض رحمه الله في مقولته المشهوة: العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجلهم رياء.. وأسوأ بما فيه ترك الأمر والنهي مداهنة للناس وتحببا إليهم وخوفاً من ألسنتهم أو حياء منهم.
|
|
|
|
|
