العلماء الراسخون هم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة.
وهبهم الله الحكمة (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا ألو الألباب) وخصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم فقهاء الإسلام، ومن دارت الفُتيا على أقوالهم بين الأنام.
هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولا ملكا ولا منصباً، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
هم الصالحون المصلحون، وأئمة الدين المهديون (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
عدلهم من لا ينطلق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فقال عليه الصلاة والسلام «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله» فيا لله ما أرفع درجتهم، وما أكرم منزلتهم.
هم الطائفة المنصورة التي جاء الوعد لمن انطوى تحتها بظهور الحجة والبيان، والسيف والسنان قال صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة» قال البخاري «هم أهل العلم» فهم رؤوسها المقدّمون وغيرهم تبع لهم.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله فيهم «لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم» يعني هناك من يخذلهم وهناك من يحالفهم فتفكروا يا عباد الله.
قال تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) قال ابن كثير «أي لا يفهمها ولا يتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه».
فكم بينهم وبين القراء الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، لا يعرفون مقاصده، ولا يدركون فقهه. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه «إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه وسيأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده وقال صلى الله عليه وسلم «سيأتي على الناس زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء ويقبض العلم ويقلّ الهرج».
وإني أعجب اليوم من حال كثير كانت إذا أعضلت عليهم المسألة، واستحكمت في قلوبهم الشبهة رددوا (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وهرعوا إلى من عرف بالفقه والعلم، واشتهر بالفضل والحلم، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.
ولما حدثت الفتنة واجتمعت في قلوبهم عاطفة وشبهة، مع سماع كلام المرجفين والمشككين تذكروا ما كان يتذكرون ولكن.. صلُّوا إلى غير القبلة، ووقفوا ببطن عُرنة، وليتهم اكتفوا بل شمخوا ليشكّكوا فيمن كانوا يهرعون إليهم في كل مسائل الدين التي تُشكل عليهم.
ففتح تاريخ المسلمين صفحة من صفحات الفتن، وسطر فيها فعل من اتخذ الشبهات دليله، والدخول في النيات سبيله، ونسيان أن الله تعالى يقول «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وتجاهل المتقرّر في قلوب المسلمين من أن لحوم العلماء مسمومة وعداوة الله في هتك أستار متنقّصيهم معلومة، فنعوذ بالله من الخذلان.
يا معشر العقلاء إن العلماء هم العارفون بالشر، البصراء فيه، كما أنهم عارفون بالخير، بصراء فيه، ولما كانوا كذلك صاروا ينهون الناس عن الوقوع في الشر ويأمرونهم بالخير ولأجل ذا وجبت طاعتهم ولاسيما وقت الفتن والاشتباه، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حذيفة رضي الله عنه بفتنة عمياء ودعاة على أبواب جهنم من أجابهم دخل فيها فقال حذيفة: فما تأمرني يا رسول الله؟
قال «الزم جماعة المسلمين وإمامهم» والعلماء العاملون في كل زمان هم رأس هذه الجماعة والمرشد لها.
وليس من شأن العلماء أن يتكلموا في كل مسألة بل قد يسكتون لمصلحة يرونها لا يدركها أكثر الناس على اختلاف ثقافاتهم.
قال البخاري في صحيحه «باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقع الناس في أشد منه «وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد هدم الكعبة وبناءها على قواعد ابراهيم لأنها الآن ليست على قواعد ابراهيم إذ تهدمت ثم بنيت بقدر استطاعة من بناها، فلما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم واستطاع من ذلك امتنع وقال لعائشة رضي الله عنها «لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد ابراهيم، ولجعلت لها بابين» وهذا الحديث أصل للعالم عندما لا يظهر حكماً في مسألة ويسكت فيها خشية قصور فهم الناس عن إدراكها أو أن يقعوا في أشد منها، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تدركه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
قال الشيخ ابن سعدي في تفسير قول الله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) «فيه نهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، وفيه الأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه أم لا فيحجم، وقال وفي هذه الآية دليل لقاعدة مهمة وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور بنبغي أن يوكل إلى من هو أهل لذلك ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة».
وقال عن هذه الآية «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يثبتوا ولا يستعجلوا باشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها.
فإن رأوا في اذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة، أو فيه مصلحة لكن مضرته لا تزيد على مصلحته لم يذيعوه».