| الاخيــرة
الإمام ابن حزم عالم من علماء الأندلس المشهورين وشيخ الظاهرية الفذ صارع وحاور وجادل مستعيناً بقوة حجته وغزارة علمه ومقدراته اللغوية ويكفيه كتابه المشهور (المحلّى) و(رسائله) التي جمعت في مجموعة (رسائل ابن حزم) والتي حوت فيما حوته بعضاً من الآراء التي اختُلف حولها والشيخ الأستاذ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري أدرى الناس في زمننا هذا بالإمام ابن حزم حتى وإن باعد الزمن بينه وبين شيخه.
وكم كان ممتعاً ان تسمع للشيخ ابي عبدالرحمن وهو يتحدث في المذياع عن (تفسير التفاسير) أو أن تقرأ له في جريدة الجزيرة بعض المقالات الرائعة.
لقد خرج أبو عبدالرحمن وعلّق على نوادر الإمام ابن حزم في كتاب اسماه (نوادر الإمام ابن حزم) والعجالة هذه تتحدث عن كتاب اسمه (طوق الحمامة) ألفه هذا الإمام الجليل في فترة زمنية من عمره تعرض فيه للحب على ورع منه ونسك وهو في هذا الكتاب ترجم للعشاق مشاعرهم وأفراحهم وأتراحهم وكأنه قد غرق في الهيام إلى أخمص قدميه.
وأذكر أنني قد كتبت مقالاً فيما مضى عن (طوق الحمامة) وهأنذا أكتب مرة أخرى عنه متناولاً جوانب أخرى ففي باب الطاعة تحدث المؤلف عن طاعة المحب لمحبوبه وبيَّن ان المرء الصعب الشكيمة حمي الأنف ابي الخسف شرس الخلق بصبح إمام محبوبه ليناً سهلاً مستسلماً.
فهل للوصال إلينا معاد
وهل لتصاريف ذا الدهر حد
فقد أصبح السيف عبد القضيب
وأضحى الغزال الأسير أسد |
والعجب أن المحب يكثر الاعتذار ويعترف بالذنب حتى وإن لم يقترفه ويدين نفسه بما هو منه براء.
وقد يكون متلذذاً فيما يفعل وسأل أحدهم صديقاً له فقال:
إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي فما أفعل؟؟
قال: أرى أن تسعى على إدخال الروح على نفسك بلقائه وإن كره فقال الآخر: لكني لا أرى ذلك فهو بهذا قد آثر هواه على هواي ومراده على مرادي بل أصبر ولو كان في ذلك الحتف فقال الأول: أما أنا فأنا أتلذذ بأن أسعى ما وسعني السعي للتقرب منه ففي ذلك لذة لا أجدها في غير ذلك.
وقال الشاعر:
لا تعجبوا من ذلتي في حاله
قد ذل فيها قبلي المستبصر
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً
فيكون صبرك ذلة إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها
هل قطفه منك انتصار يذكر |
ولا أحسب أن كل العاشقين ذوو طاعة لمحبوبيهم فمنهم من خالف محبوبه وركب رأسه فبلغ شفاؤه من محبوبه بتعمد مخالفته ورأى في ذلك غاية مناه لا سيما إذا رضخ المحبوب إلى مبتغاه فقرض ما يريد من رأى من رأي مخالف لرأي محبوبه .. غير أن نتائج هذا السلوك قد لا تكون محمودة العواقب فقد تدفع بالمحبوب إلى التشبث برأيه وإصراره عليه.
والهجر ضرب من ضروب آفات الحب وأول ذلك هجريوجبه تحفظ من رقيب حاضر وأنه لأحلى من كل وصل ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب ادخاله في الهجر لكان له تسمية مغايرة وفي هذا الموقف ترى الحبيب منحرفاً عن محبه قفيلا على سواه لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته وترى المحب مدبراً كمقبل وساكتاً كناطق وناظراً إلى وجه محبوبه وهو يسرق النظرة بعد الأخرى والحاذق قد يكتشف الأمر ويعلم أن الخافي غير البادي والظاهر غير الباطن.
ومن أبواب الهجر ذلك الهجر الذي يظهره المحبوب ليرى صبر محبه وهو بهذا يجد اللذة في ذلك النوع من الهجر فإن قرب من محبه قليلاً عاد إلى الهجر ليزيده لوعة وفرقة وهكذا دواليك ولكن هذا الديدن قد يفضي بالمحبين إلى المدلك والعزوف عن الحب.
ومن أبواب الهجر ذلك الموجب للعتاب لذنب يقع من المحب وفيه بعض الشدة لكن فرحة الرجعة وسرور الرضا عما مضى يولد لدى المحب لذة في القلب ليس لنظيرها لذة وموقعاً من الروح لا يضاهيه شيء والمتعة كل المتعة في طرح تلك الأدلة التي أوجبت العتاب ثم الاتفاق والاعتذار والندم على ما سلف والمحبوب يسارق المحب النظر وهو يصرح أمامه تلك الأدلة وما يلبث أن يبتسم علامة للرضا.
هذا ما رآه الإمام ابن حزم في بابين من أبواب الحب التي عددها في كتابه فكانت تجسيداً لمشاعر المحبين في زمانه ولأن المشاعر الإنسانية لا تتغير بتغير الزمن فها هي المشاعر ذاتها تسود بني البشر بعد ألف سنة ونيف من زمن الإمام ابن حزم.
|
|
|
|
|