| تحقيقات
القاهرة شريف صالح
بعيداً عن المناصب والمقاعد الرسمية ذات الوجاهة بحث المبدعون لأنفسهم عن مكان مختلف.. مكان آخر يفتح أحضانه للحالمين والغرباء والمهمشين.. هؤلاء جميعاً اتخذوا من المقهى وطناً.. عابرون يجلسون على مقاعد عابرة في الهواء الطلق.. أملا في نسمة حرية ونسمة ابداع، وعلى حافة الهامش وعلى النواصي دائماً هناك مقهى يبتسم.. وثمة مثقف يمضي في توقيت معلوم ليجلس في زاوية معتادة.. مسترخياً مع رائحة القهوة، أو كاتباً، مجادلاً لصديق آخر، أو مفلساً.. وفي كل أحواله يتصرف كأنه صاحب بيت، تغير الناس والزمان والمكان وطبائع الأشياء لكن تبقى المقاهي جزءاً من التاريخ والبشر والابداع، حتى وإن ولى عصرها الذهبي.
قهوة أبي نواس
أطلق بعض العرب على الخمر اسم القهوة، وقالوا: فلان عبد الشهوة أسير القهوة، وضربوا المثل بقهوة أبي نواس، لشهرته في شرب الخمر. بذلك يعتبر أول شاعر عربي يرتبط اسمه بالقهوة حيث كان معناها الخمر وحتى عندما أطلقت على مشروب يُعد من البن اليمني أو التركي، استاء منها أحد أئمة المساجد بباب الخلق ودعا إلى احراق البن وحرّم شربها.
ومنذ عام 1558م عرف المصريون شرب الدخان أو التبغ، وصدرت فتاوى تحريمه بسبب رائحته المنفرة. وبعد ثلاثة قرون دخل الشاي الخدمة في القهاوي واستقبل بحفاوة حيث كان الزعيم أحمد عرابي أول مصري يرشف منه رشفة، حين كان منفياً إلى جزيرة سيلان واستضافه اللورد لنبرن «هناك نوع من الشاي يحمل اسمه حتى اليوم» فأعجب عرابي من هذا المشروب السحري وأرسل منه كميات كبيرة لأصحابه في الوطن، ومن هذا التاريخ اكتملت مشروبات القهوة الشهيرة: القهوة والدخان والشاي.
الأدباتية
لم تكن المقاهي شهيرة في بداياتها، بل كانت الطبقة الراقية، والمحافظة تنظر إلى روادها بارتياب وازدراء، كأنها مرتع للكسالى والدهماء. وقبل أن تعتمد المقاهي في صيتها على الشعراء وأساتذة الجامعة والتشكيليين كان هناك مثقفون من نوع آخر، هم سبب شهرة المقاهي آنذاك. يمكن أن نسميهم المثقفين الشعبيين، وعلى رأس هؤلاء «الأدباتية».
يمتاز الأدباتي بالقدرة على الارتجال والقاء الأزجال، مستعيناً بطبلة صغيرة، أو بفرقة تردد وراءه، ويحرص من خلال حكاياته، على تناول الحياة العامة بالسخرية والنقد، لكن بأسلوب غامض لا يعرضه لأذى السلطة:
« أنا الأديب الأدباتي
غُلبت يا خلق مع مراتي
وتردد الفرقة:
«شُرم بُرم حالي غلبان».
ومن أشهر الأدباتية عبدالله النديم وكان يجلس على أحد مقاهي طنطا بالقرب من السيد البدوي، وهناك أيضاً صاحب الأرغول الذي يحكي حكايات زجلية مبتدئاً بالعبارة الشهيرة:« الأوله آه.. والتانية آه.. والتالته آه».
وهي ذات العبارة التي استلهمها آخر الأدباتية العظام بيرم التونسي حيث هاجم تصريح 28 فبراير ولجنة ملنر:
«الأوله آه والتانية آه والتالته آه.
الأوله.. بالبنادق سكتوا الثوار.
والتانيه.. جا اللورد ملنر يربط الأحرار.
والتالته.. تصريح في فبراير وأصله هزار».
أصحاب القافية
يعتمد صاحب القافية على سرعة البديهة وحسن التخلص وحصيلة لغوية لا بأس بها. ويجلس على أحد المقاهي بحضور الجمهور مبادرا خصمه:
«يربطوا شنبك بفتلة»
ويرد الخصم: «اشمعنى؟» « أي شيء تعنى من هذا؟»
يكون المقصود السخرية من الشارب لأنه غير مشذب ويحتاج إلى خيط يربط به. ثم انتقل هذا المزاح الفني إلى خشبة المسرح، فتألق الريحاني أو عمدة كفر البلاص وهو يدخل قافية مع الخواجة، كما تألق في الإذاعة الخواجة بيجو وأبو لمعة في مباراة القافية.
الحكواتية
الحكواتي أو الراوي أو الشاعر، هو ذلك الشخص الذي يجلس في المقهى كأي شخص آخر، لكنه حين يملك ربابته ذات الوتر الواحد ينتفض فناً وحكياً.. عن الزناتي ودياب وعنترة وقراقوش.. أساطير وأسماء وتواريخ تعيها ذاكرة واعية.. أداء تمثيلي وجمهور يصمت ويسأل ويحث الحكواتي حتى لا يتوقف ليلة وراء أخرى. إلى أن دارت عجلة الزمان ولم تعد المقاهي مغمورة بانتظار أدباتي حاذق وصاحب قافية ابن نكتة.. دارت آلة العصر وانقرض المثقفون أبناء الشفاهية ليولد عصر الأفندية وأبناء الورقة والقلم.
قهوة الأفندية
ذكرها عبدالله باشا فكري وزير المعارف السابق في خطاب له عام 1870م. وعلى اسم المقهى أسمى الرواد صاحبها الحاج حسن أفندية، لأن غالبية الرواد تخلوا عن العمالة وارتدوا الطربوش والزي الأفرنجي، ولا تخلو لياليها من الجدل النحوي الطريف بين المعممين والمطربيشن، أو بلغاء الفصحى والعامية.
وإلى جوارها انتشرت قهاو كثيرة تخص الأدباء والفنانين والنساخ وطلاب الأزهر ومشايخه، والكتبة والمذهبين الذين يقومون بتزيين المصاحف الشريفة حتى كادت مقاهي الحسين أن تكون قاصرة على أهل الأدب والفن، ولعل أشهرها قهوة الفيشاوي لصاحبها فهمي الفيشاوي. فعلى هذا المقهى التقى الثنائي بيرم التونسي وزكريا أحمد، وكتب نجيب محفوظ العديد من نصوصه، وأعد كامل الشناوي مجموعة من المقالب لأصدقائه.
وعلى دكة خشبة الفيشاوي تكسرت ضلوع الشاعر البائس عبدالحميد الديب من قسوة النوم عليها، وفشلت محاولات انقاذه من «نعمة» التشرد بلا مأوى أو وظيفة أو أهل.. ومن نوادره أن الطربوش تكسر أثناء نومه فذهب إلى طرابيشي مجاور للقهوة كي يصلحه، فقال الطرابيشي متبرماً:
«هذا الطربوش سبق لي أن قلبته على الوجه الآخر!»
فيرد الديب في سرعة وبداهة حاضرة:
«طيب.. هذه المرة أعدله».
مقهى اللواء
سمي المقهى باسم جريدة «اللواء» التي أصدرها الزعيم مصطفى كامل. وكان يتجمع في رحابه صفوة المثقفين أمثال محمد حسين هيكل وزير المعارف ومشاهير العائلة الأباظية والعوض الوكيل وطاهر أبو فاشا، كما اشتهر عن المقهى بأن مناضده تحولت إلى مكاتب لمحرري الأهرام نظراً لقربه من مبنى الأهرام القديم.
وشهد المقهى أول جلوس لسيدة من الطبقة الراقية، حيث كان جلوس النساء على المقاهي مرتبطا بالعوالم وأهل الفن، لكن القانوني الشهير الدكتور محمود عزمي عميد كلية الحقوق كسر القاعدة وخرج عن المألوف مصطحبا زوجته الروسية البيضاء إلى المقهى «عرين الرجال»!
ليس هذا هو السبق الوحيد لمقهى بار اللواء بل انه شهد أيضاً مولد جريدة «روز اليوسف» اليومية برئاسة تحرير محمود عزمي، ومن كتابها العقاد وكامل الشناوي. لكنها لم تستمر طويلاً لأن الموزع الشهير المعلم حسن الفهلوي كان وفديا حميميا فعمد إلى قتلها لأنها تعادي الوفد، فكان يحمل النسخ ويلقيها مربوطة كما هي في مقهى حقير بحي الفوالة. وهكذا ولدت جريدة «روز اليوسف» اليومية في مقهى كبير وانتهت في مقهى صغير.
وسط البلد
حين نمت القاهرة بعيداً عن أحيائها العتيقة الرابضة في حضن جبل المقطم، ظهر التخطيط الأفرنجي على يد الخواجات وتشكلت شوارع «وسط البلد» في المربع الذهبي بين رمسيس والتحرير، والعتبة وبولاق أبو العلا. بحث المثقفون والأدباء عن قهاو أخرى، في الأماكن الجديدة، لينتهي العصر الذهبي لقهاوي الحسين ليبدأ العصر الذهبي لقهاوي وسط البلد. وتنتقل راية الزعامة من قهوة الفيشاوي بالحسين لمقهى ريش في شارع سليمان باشا. ولعل أقوى دلالة على هذه النقلة الخطيرة هو الكاتب الكبير نجيب محفوظ الذي انتقل من الفيشاوي إلى ريش منذ منتصف الستينيات تقريباً.
إيزافتش وقهاو أخرى
رغم أن ريش احتل زعامة قهاوي المثقفين من بعد الفيشاوي، لكن رياح التغيير وزيادة أعداد المنتمين إلى الوسط الثقافي، كل هذا أدى إلى ازدهار قهاو أخرى بوسط البلد، مثل قهوة إيزافتش بميدان التحرير «1942 1972م وكان يملكها مهاجر يوغسلافي مسلم، فر من بلاده بعد انفراد تيتو بالسلطة. كانت القهوة بالنهار مقراً للمحامين والموظفين وأعيان الريف لقربها من وزارات حي لاظوغلي، وبالليل يتردد عليها نجوم الفكر والثقافة أمثال أحمد رشدي صالح، لطفي الخولي، محمد عودة، صلاح حافظ، محمود السعدني، صلاح عيسى.
وفي نهاية الممر المحاذي لكافيه ريش توجد زهرة البستان. مقهى صغير لا يجلس بداخله أحد من الزبائن، فالكراسي تصف على الرصيف والممرات المحيطة. وهي المقر المفضل للأجيال الشابة وصعاليك المثقفين وراغبي الشجار الفكري أحياناً.
يظل التلفزيون في حالة عرض مستمر دون أن يعبأ به أحد من زبائن «الزهرة» كما يختصرون اسمها. ومن أهم معالمها العم أحمد مرسي الذي يعمل بها منذ عام 1948م عند ما كان كوب الشاي ب«8 مليمات!
أيضاً هناك مقهى النادي اليوناني والجريون ولا يقتصران على أرباب القلم فقط. ويعملان بطاقة كاملة في يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع حيث يفد إليهما المثقف القادر على دفع الفواتير وترك البقشيش (!!) وبالقرب من ميدان باب اللوق توجد ثلاث قهاو تهم المثقفين هي مقهى الحرية ومقهى الندوة الثقافية وأخيراً سوق الحميدية. ومن المفارقات أن الجيزة لم تسهم كثيراً في ذيوع قهاوي المثقفين باستثناء قهوة محمد عبدالله التي كان يرتادها زكريا الحجاوي وعبدالرحمن الخميس ومحمود السعدني ومجموعة من الظرفاء آنذاك.
ندوات وشهادات
غابت قهاو وولدت أخرى.. غاب الحكواتي وظهر الروائي.. وبقيت فكرة الندوة أو طقس «القعدة» فنجيب محفوظ كانت له قعدة على مقهى الأوبرا ثم انتقل إلى ريش ثم علي بابا وأخيراً كازينو النيل.
يقول الروائي يوسف القعيد في شهادته عن القهوة وندوة الأستاذ نجيب محفوظ، انها جاءت بلا قرار نتيجة لأن الأستاذ لا يحب أن يزوره الكثيرون في بيته، كما أنه أثناء الوظيفة لم يكن له مكتب خاص به يستقبل زواره، من هنا جاءت القهوة كحل.. واضطر نجيب محفوظ كما يروي القعيد للانتقال من مقهى إلى آخر بسبب دواع أمنية. فأثناء مرور موكب عبدالناصر بالقرب من مقهى الأوبرا لاحظ الأمن وجود الندوة وأبدوا عدم رغبتهم في استمرارها هنا، فانتقلت إلى ريش مساء كل يوم جمعة إلى أن قرر صاحب المقهى أن يتخذ من هذا اليوم بالذات عطلة أسبوعية (!!)
وأثناء ذهاب محفوظ إلى كازينو قصر النيل تعرض لاعتداء ثم ترتب عليه حفاظاً على سلامته عدم الجلوس في أماكن مفتوحة مقتصراً على قعدة خاصة مع المقربين.
أما الحاج مجدي صاحب ريش في شهادته فيقول إن اغلاق المقهي لمدة عشر سنوات كان لأعمال التجديد والترميم وكنتيجة لما أثاره الأدعياء من مشاكل في المقهى قبل اغلاقه. ويؤكد أنه لا يمكن يغلق المقهى في وجه أي مثقف حقيقي أما الأدعياء فلن يمروا من عتبته لأن للمكان تاريخه وسمعته اللتين يجب الحفاظ عليهما.
وبالنسبة لقعدة سوق الحميدية كل يوم أحد من السابعة حتى التاسعة مساء، فيقول عنها الناقد فاروق عبدالقادر أنها بدأت مع بداية الثمانينيات على يد الكابت الراحل نعمان عاشور ثم حافظ على استمرارها الناقد الراحل فؤاد دوارة وأخيراً أصبحت تعقد على اسم فاروق عبدالقادر نفسه، الذي يحرص على بقاء الندوة كلقاء مفتوح لمخرجين وممثلين وكتاب بدون مواعيد مسبقة معهم ودون طرح موضوعات محددة، ويكفي أن يجلس الجميع لتبادل الآراء الحرة.
هكذا ببساطة..
مضى عصر الذهب وغاب صوت الحكواتي وشجن الجمهور.. غابت روح التمرد وأسرار الثوار وجلسات الكبار.. والآن يتجول مثقف النظام العالمي الجديد بين حي الحسين وميدان باب اللوق ووسط البلد بحثاً عن رائحة عتيقة لزمن لن يعود..!
|
|
|
|
|