| الثقافية
منذ طفولتنا المبكرة كنا دوماً معاً... نصحو مع الفجر في قريتنا الصغيرة نتمتع بنسائم الصباح المنعشة.. نذهب أنا وهو إلى الجبل الكبير في قريتنا الذي يقف شامخاً بارزاً وكأنه قد فرض سيطرته على كل ما حوله من الجبال الصغيرة وكذلك على قريتنا.
حالنا كحال بقية أطفال القرية ليس لنا هم سوى اللعب في المزارع المحيطة أو في مياه الوادي أو اللعب مع الأغنام...
كبرنا ودخلنا المدرسة، كانت لنا نفس الهموم والتطلعات... أكملنا المرحلة الابتدائية بتفوق وعشنا أياماً لاتنسى كانت أمتع أيام حياتي... وها هي الأيام تجرى كالسيل الجارف وما هي إلا أيام ونحن على أبواب الدراسة مرت السنة الأولى من المرحلة المتوسطة بحلوها ومرها.. كنا أنا وهو محط أنظار المدرسين ومحل إعجابهم ومديحهم وثنائهم.. كنا كروح واحدة في جسدين لايفرقنا سوى النوم.. نفس التفكير.. نفس الهوايات.. نفس النظرة البريئة لهذه الحياة...
وفي يوم من الأيام وبينما نحن في الحصة السابعة رن جرس النهاية ليعلن نهاية ذلك اليوم الدراسي... الذي لن أنساه..
وها أنا وعبدالله... نخرج من المدرسة متجهين إلى السيارة لكي نعود معاً إلى البيت فأنا اليوم سأصطحب عبدالله إلى منزلنا لتناول الغداء الذي قد وعدته به..
ولكنه قدم اعتذاره لي على أن يزورني في أقرب فرصة ... وبينما نحن في الطريق والحديث عن واجباتنا لهذا اليوم.. ونحن لانعلم ماذا يخفي لنا القدر.. فجأة وبينما أنا أناظر إلى ذلك الوجه البريء وأتذكر شقاوتنا ولعبنا.. أتذكر أيام طفولتنا.. وهل سيأتي يوم نفترق فيه أنا وعبدالله... ولم أكن أعلم أن هذا اليوم هو اليوم... وكما أذكر أن آخر كلمة قالها عبدالله سنلتقي قريباً.. وشاء الله ان يحصل ما حصل.. ولم أصح إلا وأنا على ذلك الفراش الأبيض وقد تغيّرت ملابسي دون علمي وأول ما أفقت تبادر إلى ذهني رفيق دربي عبدالله فأجابني من حولي أنه بخير وفي أتم صحة وهو بالغرفة المجاورة... وما هي إلا دقائق حتى حضر والدي ووالد عبدالله فسألتهما أين عبدالله..؟!!
ولم أجد الجواب.. ثم كررت السؤال عن صديقي فأجاب أبو عبدالله بنبرات حزينة أنه في مثواه ولم أكن أعرف معنى هذه الكلمة.. فتخيل لي أنه في الغرفة الأخيرة من الارهاق.. ومضت الشهور وخرجت من ذلك المستشفى إلى منزلنا الذي قد تغير مع مرور الأيام..
مضى أسبوع على قدومي إلى المنزل ولم يحضر عبدالله لزيارتي... سألت أبي عن عبدالله..؟ لماذا لم يأت لزيارتي؟! هل تناسى مابيننا.. هل نسي أيام الصبا..؟! علل أبي ذلك بأنه ربما حصل له شيء أعاقه عن المجيء لزيارتي...
مضى أسبوع آخر ولم يحضر.. عندها عزمت أنا على زيارته.. وعندما وصلت إلى منزل عبدالله كل شيء تغير.. والده يبدو على محياه الحزن.. اخوته لم يبتسموا في وجهي مثل كل مرة... عندها بادرت أبا عبدالله بالسؤال أين عبدالله؟ ثم انتظرت الإجابة.. ولكن لم أجدها.. سألته بالله العظيم أن يخبرني أين عبدالله..؟
فقام وأخذ بيدي وسار بي إلى ان وصلنا إلى مكان أعرفه جيداً لقد لعبنا عنده كثيراً أنا وعبدالله ولكن لأول مرة أنتبه لتلك اللوحة المهترئة التي أكل الدهر عليها وشرب نقش عليها «السلام عليكم دار قوم مؤمنين».
توقفنا عند قبر نام بجواره قط صغير وقال لي أبو عبدالله: هذا عبدالله يا ولدي...
غارت الدنيا في عيني.. سقطت على الأرض وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله: إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجبرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيراً منها...
خرجت من المقبرة هائماً على وجهي: ذهبت للبيت، بكيت تلك الليلة كما لم أبك من قبل طوال تلك الليلة كنت أتذكر تلك الابتسامة.. أتذكر تلك الطفولة.. أتذكر ذلك الحبيب..
أتذكر ذلك الصديق.. أتذكر ذلك ا لرفيق...
أتذكر ذلك الغالي.. أتذكر عبدالله .. مات..!!
لقد ذقت الذل والهوان في تلك الليلة وأنا أقلب صفحات الذكرى الجميلة والحزينة.
ما زلت أذكر صوتا ينساب إلى أذني بل إلى قلبي..
آه ياعبدالله... ماذا أقول... وبماذا أعبّر... لقد كنت الأخ كنت الصديق، كنت الجار، كنت حياتي كلها... كيف أستطيع العيش بدونك... الله أكبر... الله أكبر..
آه صوت المؤذن.. ما زلت أذكر أيام الاختبارات في هذه الغرفة... مذاكرتنا وجدنا واجتهادنا...
نفس المؤذن .. نفس الغرفة .. نفس الهواء البارد كل شيء هو نفسه إلا انت يا عبدالله...
خرجت بعد الصلاة إلى ذلك المكان العزيز عليّ جداً أنا وعبدالله .. إلى ذلك الحارس العظيم الذي يقف ويشاهد كل يوم عوض وعبدالله... إلى ذلك الجبل.. آه ياجبل..
ألا تذكرني.. ألا تذكرني أنا وصديقي.. هنا لعبنا وهنا وعند تلك الصخرة نمنا.. وتحت تلك الشجرة أكلنا.. وفي هذا الوادي كم لعبنا ولهونا..
آه مضت تلك الأيام ومضى عبدالله معها..!!
إنها سنّة الحياة...
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة
عليه مضى طفل وكهل وأشيب |
غفر الله لك يا عبدالله، وجمعني بك في مستقر رحمته ودار كرمته.. آمين..
عوض محمد إبراهيم الشهري - محائل عسير
|
|
|
|
|