| شرفات
الحنين والدفء الانساني والعلاقات الرحيمة الحميمة.. هي أبرز سمات الماضي، اما الحاضر فهو العالم الجامد والصخر الجلمود الذي يحاول الانسان ان يثقب ثغرة فيه ولا يستطيع. والبحث عن الجانب الانساني في الحياة التي (تشيأت) من حولنا وصارت بلا قلب اصبح مثل محاولات سيزيف لرفع الصخرة اعلى الجبل وسرعان ما تنزلق الى اسفله مرة اخرى.. هكذا هي العولمة في جانبها ووجهها المظلم الثقيل والمرفوض من قبل مناهضي العولمة. والعولمة من اشهر الكلمات وابرزها التي صارت متداولة على ألسنة الجميع في شتى بلدان العالم، يرحب بها البعض ويرفضها البعض ويتخوف منها الكثيرون، غير ان جوهر الرفض والتخوّف يكمن في ان العالم ليس سلعة ولا يمكن إخضاع البشر لمقاييس موحدة او مستوى واحد من الجودة، فاذا كانت العولمة ستفرض في جوانب كثيرة منها فرضا، فانه من المحتم عدم استطاعة عولمة الشعور والحس الانساني، فلكل انسان احلامه وطموحاته وعالمه الخاص، ومن الصعب على الاطلاق تعميم الاحلام والعوالم الخاصة في عالم واحد. ورغم العديد من الاحاديث التي جرت في نهر العولمة الا انها لم تجف بعد، بل تزداد تدفقا، وسواء كانت (مع) او (ضد) الا ان المحاولات لا تهدأ لإكساب العولمة الطابع الانساني وصد الجوانب التي يمكنها النيل او التأثير على الخصوصية والهوية، والجهود الدولية والعربية مستمرة ومتواصلة لجعل العولمة اكثر انسانية او ما يسمى (انسنة العولمة)، وما شهده العالم من احتجاجات ضد العولمة من البلدان الاوروبية والعربية التي ابرزت سلبيات العولمة ومخاطر الجات وغيرها خير دليل على المحاولات والجهود المستمرة المناهضة لتوحش العولمة. في هذا الاطار اكد الدكتور محمد السيد سعيد الخبير السياسي ومدير مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالاهرام انه يجب العمل على الاستفادة من العولمة وتجنب سلبياتها وقال في ندوة عقدها مركز القاهرة لحقوق الانسان بالقاهرة مؤخرا بعنوان (العولمة والعولمة المضادة) انه يجب تجنب الانحياز اما سلبا او ايجابا، فالعولمة كما يراها الخطاب العربي السياسي والثقافي ليست شراً خالصا تأتي بالنفع للدول المتقدمة على حساب شعوب العالم الثالث.
ويرفض السعيد رؤية الخطاب العربي لمفهوم العولمة قائلا ان الخطاب العربي يرى في جانب كبير منه ان مفهوم العولمة هو تدمير للثقافات والتجانس الاجباري والتنميط وفرض القيم الرأسمالية والخصخصة دون الاستناد للاطر الحقيقية لمفهوم العولمة وتفسير كيفية ظهوره على الساحة الدولية، وأضاف الدكتور محمد السعيد ان العولمة جاءت في مفترق حقبة سياسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والتي افرزت مشروعين عالميين احدهما: يقوم على استمرار عسكرة العالم وسيطرة الانماط التقليدية على النظام العالمي الجديد واستمرار التهديد بالحرب وبقاء الخطاب الإستراتيجي القائم على مفهوم القوة.
والآخر: يقوم على انفتاح العالم ليصبح قرية واحدة تسود فيها المنافسة والاندماج بين كافة الثقافات والايديولوجيات واعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي وهو مشروع يميل للايجاب ولا يغفل الجوانب الانسانية ويوجد مجتمعا دوليا يتعايش بقومياته ولغاته وثقافاته كلها في اطار تنظيمي واحد قد يكون متمثلا الآن في الامم المتحدة ورغم انه اطار هش لكنه قابل للتطوير والتحديث.
العولمة المضادة
وحول مدى ما تمثله الاحتياجات والحركات المناهضة للعولمة من توفير الجوانب الانسانية قلل د. سعيد من تأثيرها قائلا ان هذه الحركات المناهضة يمكن ان نسميها بالعولمة المضادة تنطلق من فهم خاطىء لطبيعة العولمة من ناحية وطبيعة آليات مواجهة سلبياتها من ناحية اخرى، فأصحاب هذا الاتجاه يفهمون العولمة على انها عملية تقوم على المصلحة والسيطرة المحكمة من قبل الدول المتقدمة في سبيل الحصول على مصالح خاصة دون الوعي بباقي اوجه العولمة، التي قد تتضمن حياة شبه مستقرة للعديد من الدول النامية، ويرى د. سعيد ان الثقافة السياسية العربية تقاوم العولمة من منطلق غير عقلاني ومن منطلق المقاومة والانفلاق وليس الاندماج والتفاوض، فالحركات النقابية العمالية في امريكا والمانيا والتي تعتبر اولى الحركات التي حاولت مناهضة العولمة ثم تبعتها جماعات المزارعين في فرنسا وايطاليا وقد قامت هذه الجماعات بالاندماج والتفاوض مع قوى العولمة لتستطيع حصد اكبر قدر من المنافع وتقليل الاضرار قدر المستطاع وبهذا اختارت إستراتيجية حصد المكاسب بدلا من الانفلاق، وثاني تلك الحركات تتمثل في حركات المجتمع المدني العالمية مثل حركة السلام الدولي وحركات النساء العالمية، وحقوق الانسان، والتي تمتلك ايديولوجيات ثقافية تقوم على اسس اجتماعية وتجمع في ثناياها شتى القوى الاجتماعية والسياسية الفعّالة في المجتمعات المتقدمة والنامية، وهناك قوة ثالثة لها تأثير في مقاومة العولمة تتمثل في الثوريين القدماء من حزب العمال الشيوعي الامريكي وبقايا اليسار في اوروبا وأمريكا اللاتينية التي تحارب العولمة دفاعا عن رفاهية الدولة ودعمها للسلع والخدمات وإيجاد فرص عمل جديدة.
إستراتيجيات مناهضة العولمة
وأضاف د. سعيد ان الاحتياجات والحركات المناهضة للعولمة حاليا تنطلق وفق اربع إستراتيجيات، اولهما: قطع الطريق على العولمة ومعارضة الاتفاقيات الجديدة وحشد المظاهرات في كل اماكن اجتماعات ومؤتمرات انصار العولمة، ولكن هذه الاستراتيجية كما يراها د. سعيد لا أمل فيها فلم يثبت التاريخ الاجتماعي الاوروبي نجاح مثل تلك الحركات والتي بدأت في القرن الثامن عشر في انجلترا عندما حطم العمال الآلات الحديثة احتجاجا على الرأسمالية.
ثانيا: إستراتيجية النضال المطلبي والتي بدأت في نجازاكي باليابان، حيث طالب المحتجون بإسقاط ديون الدول الفقيرة وقدموا مطالب تخدم مصالحهم بالدرجة الاولى، وفي سبيل إيجاد نوع من الرأسمالية العاقلة التي تضع الفئات الدنيا في حسابتهم.
ثالثا: المشاركة في العملية التفاوضية وهو ما حدث في الدوحة من محاولة بعض المنظمات المشاركة في المفاوضات الجارية ووضع تعديلات فعلية على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وخاصة اتفاقية الملكية الفكرية (التربس) ومحاولة تغيير بعض النصوص الخاصة بالاختراعات والدواء.
رابعا: إستراتيجية الإجبار وهي اكثر الاستراتيجيات فاعلية وقوة حيث تسعى الاطراف المعارضة للعولمة لضرب الاحتكارات التكنولوجية والذي يعتبره انصار العولمة السلاح الاول في الدفاع عن العولمة وبالتالي تؤدي هذه الخطوة لنوع من الاجبار لتلبية مطالبهم.
عولمة أقل توحشاً
من جهة اخرى يؤكد الدكتور حيدر ابراهيم مدير مركز الدراسات السودانية على وجود امكانية لإيجاد عولمة بديلة اقل توحشا واكثر انسانية وذلك عن طريق الاستفادة بأكبر قدر من ايجابيات العولمة، فالعولمة ليست شرا خالصا ولكننا في حاجة لفهم تناقضاتها. ويشير د. حيدر الى اهمية تحديد موقفنا من العولمة واعادة النظر في طرق وادوات التعامل معها فنحن في حاجة لمناعة فكرية وتكنولوجية حديثة.
كما نحتاج لحركة تنظيمية ومؤسسية واسعة تستطيع حشد مختلف التيارات والحركات في سبيل بلورة آليات ووسائل ورؤى حقيقية تمكنها من لعب دور محلي وعالمي، وبدون هذا الشكل التنظيمي لا يكون لنا استمرارية او فاعلية في إبراز الجانب الانساني او أنسنة العولمة.
ويؤكد د. حيدر ان حركات الاجتماعات العالمية السائدة في امريكا واوربا يمكن استثمارها في شكل قوى اقليمية واحدة تحت تنظيم دولي واحد مناهض للعولمة يملي قراراته في المحافل الدولية من اجل إيجاد عولمة عادلة واكثر انسانية تخدم الفئات الهشة والضعيفة.
محمد حسن
|
|
|
|
|