| شرفات
سيطر ذو القرنين على عالم الحكايات الشعبية سيطرة واضحة، في الموروث الفولكلوري العالمي بعامة والعربي بخاصة فقد نسجت حول هذا اللقب حكايات وروايات وأعمال وأحداث وصيغت حوله حكم ورؤى فلسفية ومغامرات وشيت بالرمز والمغزى وطرزت بالفعل والمعنى.
وحاولت ان تحمله رؤى شعبية لمعنى القوة والسيطرة ولمغزى السلطة والجبروت ثم آخر الأمر لنهاية الحياة وبقاء المعنى.
فمن هو ذو القرنين هذا الذي صبت فيه حكمة الشعب وحملته سخريتها من القوة مهما بلغت والسطوة مهما عظمت والمركز مهما علا وسما..؟ فهو يوناني مرة وفارسي مرة، ومصري مرة، ويمني مرة، وعربي مرة.
واحتفظ الموروث الشعبي العربي قبل الإسلام ببعض الأخبار عن ذي القرنين وكان السؤال عن هذه الشخصية من بين الأسئلة الملغزة المحيرة والشخصية في القرآن الكريم قد وردت بلقب «ذي القرنين» دون ذكر اسم خاص لها أو جنسية معينة وهي تأتي موجزة إذ مكّنه الله في الأرض وآتاه من كل شيء سببا أو علما حتى بلغ مغرب الشمس فدعا أهلها إلى الإيمان فمن آمن تركه ومن كفر عذبه ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس فوجد قوما لا يفهمون قولا وهم يأجوج ومأجوج فأمره الله ان يبني بينهم وبين باقي الناس سداً يحمي الناس منهم حتى يأتي أمر الله.
فقد أتى ذكر هذه الشخصية في القرآن الكريم مختصراً غاية الاختصار، مما أتاح الفرص للتساؤل والبحث عن تفسير مغزاها والأحداث الموجزة التي أوردتها الآيات الكريمة عنه وابراز كل ما قيل حول اللقب وسر تسمية صاحبه به وإلى أي الأقوام ينتسب وفي أي العصور عاش؟
وعلى الرغم من اختلاف قدامى المؤرخين وكتّاب الأخبار حول شخصية ذي القرنين إلا انهم لم يختلفوا أبداً على المعنى والمغزى المراد بالحكاية عنه، وان غيّر بعضهم المغزى ليحقق غرضاً معيناً أو حوروه ليخدم فكرا فلسفيا. واختلف الآخرون فيه فمنهم من قال انما كان عبداً صالحاً وملكاً عادلاً فاضلاً ومنهم من قال بل كان من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس له ولد غيره واسمه الاسكندر ويقال ان اسمه عباس وكان عبداً صالحاً.
ونخلص من هذه التفاصيل إلى تقديم الرواية الشعبية لذي القرنين على انه ليس إنساناً عادياً كالبشر وإنما هو إنسان خاص مكلف برسالة خاصة وإلا ما دانت له دول العالم كلها شرقا وغربا على السواء.
أما مفسرو القرآن الكريم فقد اتفقت آراؤهم استناداً إلى المرويات الشفوية المتداولة إلى ان ذي القرنين هو الاسكندر وانه كانت توجد شخصيتان تحملان نفس الاسم، أما سبب التسمية بذي القرنين فاختلفوا أيضاً فيها فقيل: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، أو ان في رأسه شبه قرنين، وقيل: لبلوغه أطراف الأرض وان الملك الموكل بجبل قاف سمّاه بذلك، وقيل «لأنه ملك الروم وفارس» وقيل لأنه كان كريم الطرفين من بيت شرف من قبيل أبيه وأمه أو لأنه أُعطي علم الظاهر والباطن أو لأنه دخل الظلمة والنور وقيل: لأنه رأى في منامه انه يدنو من الشمس فيضع يده على قرنيها من شرقها وغربها، فقص رؤياه على قومه فسموه ذا القرنين.
ولأن الاسكندر الأكبر يقف كصاحب أعظم إنجاز حربي عرفه التاريخ القديم فقد غدت شخصيته البؤرة الأولى والرئيسية التي خرجت من أحداث حياتها الحكايات والمرويات الشعبية المليئة بالبطولة والحكمة معاً عن ذي القرنين ملك مقدونيا الذي غزا العالم من النيل إلى الهند وامتدت غزواته إلى الغرب والشرق منذ توليه العرش وهو في العشرين حتى مات في الرابعة والثلاثين ولم تلبث ان تحولت الشخصية إلى معين لا ينضب للخيال الشعبي في العالم كله وأصبح لقب ذي القرنين يطلق على غزاة من أبناء شعوب أخرى وصار ذو القرنين سواء كلقب أم بوصفه الاسكندر مثار تنازع بين كل الشعوب القديمة يحاول كل شعب منها ان يجد وسيلة فولكلورية لنسبته إليه وضمه إلى زمرة أبطاله الشعبيين.
فقد أطلق العرب لقب ذي القرنين على اثنين من أكبر ملوكهم، والكندي والمسعودي يردان نسب اليونان كلهم إلى العرب ومنهم الاسكندر بالطبع وسعى اليهود إلى نسبة ذي القرنين إليهم وهو عندهم الاسكندر الأكبر واحالته الروايات الأوروبية إلى بطل اسطوري قادر على خوض المجهول والاتيان بما هو معجز بقوته الذاتية الخارقة.
هكذا تجاوزت البطولة في الخيال الشعبي حدود المكان والزمان وحطمت فروق الأجناس والألوان التي يستقيها أبناؤها من هذه الحياة الحافلة وأياً كان الأمر في ذي القرنين: سواء أكان بطلاً أو حكيماً أم سواه اغريقياً أم عربياً أم فارسياً أم مصرياً أم يمنياً أم حبشياً، فهو بطل قدمته المخيلة الشعبية العالمية مستوحى من واقع تاريخي عاشه العالم القديم وترسب في حكمة الشعب فقدمته كل الشعوب تقديماً فولكلوريا تعكس فيه أحلامها ورؤاها وما تؤمن بأنه الحق والخير.
د. محسن محمود
|
|
|
|
|