قد ينتقد الانسان اموراً أزعجته ويشكو ويتذمر ويسأل عن الحلول والبدائل، وفي الوقت ذاته قد يرى ويلاحظ بعض الأمور التي تسره فيتمنى ان تسير جميع الامور على هذا المنوال ويشكر ويقدم الثناء..
تحتل المهن الانسانية قمة المهن قاطبة حيث انها تتعامل بشكل مباشر مع البشر وعلى رأس هذه المهن مهنة الطب ومهنة التدريس والقضاء.. فهذه المهن لا تتعامل مع الورق او الحديد او الخشب او خلافه لكنها تتعامل مع البشر.. اسمى مخلوقات الله.. قال لي احد الاطباء ذات يوم بعد ان قدمت له شكري وتقديري، ان العلاقات الانسانية في مجال الطب تمثل 60% اما الـ40% فهي للعلاج.. بعدها ثبتت هذه المقولة في عقلي.. دفعتني الظروف لان اراجع احد الاطباء في الرياض لاجراء عملية جراحية لابد منها.. فوجدت لديه مهارة عالية في الاصغاء والسؤال والمناقشة وسعة الصدر والبعد كل البعد عن الايرادات المادية التي هي هم البعض وللاسف.. ولم يركز الدكتور اهتمامه على حالتي وحسب بل تعدى ذلك الى مجاملة واعية ونظرة تربوية ابوية حانية لطفلة في الخامسة كنت اصطحبتها معي لاثبت لها ان الطبيب رجل لا يؤذي بل يحب الاطفال.. كان المركز الطبي الذي يعمل به الطبيب المذكور قد اهدى لها كرة مطاطية رسم عليها شعار المركز بينما راحت تمطرني بوابل من الاسئلة حول الوجهين المتداخلين وهو شعار المركز الذي لاحظته على الكرة المطاطية والشعار ذاته الذي طبع على باب العيادة.. واثيرت دهشتها عندما وجدت وهي مازالت ترتعد خوفا من الطبيب ان في غرفته ساعة منضدية رسم عليها الشعار نفسه.. فتساءلت: لماذا توجد هذه الصور في كل مكان؟ وما ان حركتها من مكانها حتى دخل الطبيب مما جعلها ترمي بالساعة في حجري خشية منه.. ولما وضحت له الامر بادر مسرعاً في احضار ساعة مماثلة ليعطيها تلك الطفلة التي لم تتوقف عن تقليبها والنظر اليها بسعادة غامرة.. هذا هو طبيب الانسانية الذي ننشد.. لقد طمعت في كرمه فشكوت له من مرارة احساسي وانا اشرح لغيره من الاطباء ما احس فلا يأبه.. كنت اقول للآخر الذي سبق ان اجرى لي عملية جراحية.. مازالت هناك غرزة خلف اذني يا دكتور.. فيجيب ببرود تام.. لا ادري اي شيء انه مجرد تصور.. هذا ما سردته على الدكتور الذي طمأنني بقوله: المريض دائما على حق.. دعيني ارى وماهي الا لحظات وبجدارة فائقة سحب خيط الغرزة التي طالما ازعجني وجودها والتي انكر وجودها طبيبي الخاص.
كان الدكتور قد قرر اجراء عملية لي حدد موعدها في مركز فارهٍ نظيف منظم لم اكن اعرفه من قبل.. الكوادر الشابة التي دربت اعلى تدريب واتسمت بطابع المروءة والعطف والانسانية.. وقبيل اجراء العملية حضر الطبيب ليشرح لي طبيعتها ويدعمني ببعض التعليمات ومما لفت نظري ان الطبيب احضر زوجته اخصائية الانف والاذن والحنجرة والتي جاءت لاكرامي بالسلام والتعرف والوقوف الى جانبي حيث كنت بمفردي.. لقد بنيت معها وفي طرفة عين علاقة اجتماعية اساسها الحب في الله اذ لازمتني طيلة فترة العملية الجراحية وعادت تسأل عني بعدها ولم تتخل عني الا عندما غادرت المركز.. هؤلاء هم ملائكة الرحمة وهؤلاء هم الذين يجسدون لنا سمو المهنة والاخلاص في العمل وحب الناس لاسيما وانني لم يسبق لي معرفة الدكتور ولا زوجته فكيف لو كنت اعرفهما من قبل؟ هذه هي الضمائر الحية التي تضع ثقلها على الجانب الانساني والنظرة الحانية والكلمة الطيبة ليخرج المريض بعد عملية كبرى وكأنما لم يعان من ألم بل يخرج من المستشفى بحصيلة كبيرة من الحب والتقدير والاحترام. ما لاقيته من حسن رعاية وعناية من هذين الزوجين الماهرين جعلني ارجع للوراء في تفكيري عندما كانت العلاقات الاجتماعية القوية تسود المجتمعات بعيدا عن هذا العصر الذي ذابت فيه واصر واضمحلت الا ماندر وسيطرت التكنولوجيا والفضائيات والانترنت بايجابياتها وسلبياتها على العقل البشري لتوشك ان تحوله الى آلة صماء.. فهو متلق سلبي تنقصه مهارات الاتصال اللفظية والتواصل.
ان العناية التي يلقاها المريض من طبيب ليست بالضرورة ان تكون بواسطة حقنة طبية او جرعة دواء.. ولكن التأثير النفسي له الاثر الكبير في تقدم حالة المريض.. ولعلنا نتذكر هنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة» و« الكلمة الطيبة صدقة» فقد صنفها صلى الله عليه وسلم على انها صدقة لما لها من اثر ايجابي في النفوس، لذا فاننا دائما بحاجة الى الكلمة الطيبة والابتسامة الحانية.. واننا دائما بحاجة الى طبيب يضع العامل الانساني فوق كل اعتبار.. تحية احترام وتقدير لهذا الطبيب البارع وحرمه وزملائه الذين اثبتوا بجدارة شدة اتقان العمل الفريقي ولتلك الملاك التي تستجيب لك من مجرد نظرة او اشارة واحياناً قد لا تطلب منها اي شيء لكنك تجدها تطوف حولك كحمامة سلام وديعة تعمل بصمت وهدوء انها الممرضة التي تمثل جودة التدريب في مراكز وكليات التمريض في المملكة تحية اعتزاز وتقدير لكل انسان عمل فأتقن واخلص فنام قرير العين مرتاح الضمير.
وصدق الرسول الكريم اذ قال: «ان الله يحب اذا عمل احدكم عملاً ان يتقنه»، وصدق الله العظيم اذ قال: {وّقٍلٌ \عًمّلٍوا فّسّيّرّى پلَّهٍ عّمّلّكٍمً وّرّسٍولٍهٍ وّالًمٍؤًمٌنٍونّ}.
لقد تعمدت عدم ذكر اسم الطبيب وزوجته والممرضة التي تعمل معهما وكذلك اسم المركز الطبي الذي عولجت فيه وذلك خشية ان يفهم كلامي بأنه من باب الدعاية لهم، فيما كان الهدف من هذه السطور الاشارة الى كفاءات تعمل بصمت ولا ترغب في فلاشات الاعلام وهذا هو مصدر انبهاري بما رأيت.
*جامعة البحرين |