شيركو بيكه س، أو شيركو بيكس، شاعر كردي معاصر ظهرت ترجمات لشعره في أواخر التسعينات، أي قبل أعوام قليلة، منها مقطع من قصيدة نشرتها إحدى الصحف بعنوان (مضيق الفراشات)، ومنها مجموعة بعنوان (نغمة حجرية) ترجمت ونشرت في سوريا عام 1999، في (مضيق الفراشات) نقرأ ما يلي:
(هذا هو الخريف الأول
بعد ظلال مركبك
هذا الخريف لا يشبه خريفك
هو خريف أرمل يسكن الأكواخ
وهذا خريف مذهب الرأس يسكن القصور
يذوي في البيوت الزجاجية
الخريف هذا لا يشبه خريفك
هنا لن ينتحب على الشجر غير الشجر
هنا لا ينتحب على الحجر غير الحجر
لكن هناك في خريفك البعيد
ينتحب الشجر والحجر والماء والناس معاً.
قد لا يكون الخريف المذهب جزءاً من ذاكرتنا الثقافية، هنا في قلب الجزيرة العربية، حيث لا يكاد يفرق بين الفصول سوى درجة الحرارة. ولكنه صورة ذهنية منا من رآها ومنا من يستطيع تخيلها دون رؤية، إنه الخريف الذي تعلن أشجاره رحلة الانتقال من الصيف إلى الشتاء عبر تشكيلة مذهلة الألوان، مدهشة الاختلاف، مغرقة في الجمال، وقبل أن تعرى الأشجار تماماً يكون الطيف اللوني قد اكتمل بارزاً منه الذهبي الذي يشير إليه الشاعر، ذلك الخريف يمكن أن يرى في أماكن كثيرة من العالم يشتهر من بينها الركن الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة والجنوبي الشرقي من كندا، بالإضافة الى مناطق كثيرة من أوروبا والصين واليابان لكن الشاعر غير معني بالموقع الجغرافي وإنما بشيء آخر يكمن فيه الشعر.
المفارقة التي يكمن فيها الشعر، بل وتنبض به هنا، هي المقابلة بين هذا الخريف وخريف آخر لا عبر الاختلاف اللوني أو التغاير الطبيعي، وإنما عبر المشاعر الإنسانية التي تقيس المسافة بين خريف وخريف، والمسافة تبدأ بظلال المركب، بخروج الشاعر من خريفه المعتاد، من وطنه، إلى منافٍ يستوطنها خريف آخر: (هذا الخريف لا يشبه خريفك)، هنا في الخريف الجديد يلوح الذهب فوق القصور، خريفاً أرستقراطيا متعالياً، بينما في الخريف المتروك في الوطن يلوح الخريف أرملاً بسيطا وفقيراً يسكن الأكواخ.
لكننا هنا بحاجة الى ترك اللغة الشعرية قليلا والنزول إلى جفاف الواقع، لنتأمل في كيفية عمل اللغة الشعرية، ونعود إليها من جديد ولكن بعد أن نكون قسنا المسافة التي يصنعها الشعر. وسنلاحظ أن الشاعر يتعمد توظيف اللون الذهبي على النحو الذي يتجاهل الواقع الطبيعي ويخدم رؤيته الشعرية، بل ربما موقفه الاجتماعي الاقتصادي. فذهب الخريف، أو اللون الذهبي الذي يلوح في أعالي الأشجار أثناء ذلك الفصل، يخضع هنا لمعالجة أكاد أقول أيديولوجية من حيث هي تسقط رؤية احتجاج اجتماعي على براءة الأشجار والفصول، فثمة هجاء هنا موضوعه فصل الخريف الآخر، في المنفى وبين الأغنياء، خريف يوصف لا بالثراء فحسب، وإنما بالقسوة والجفاف العاطفي: (هنا لن ينتحب على الشجر غير الشجر هنا لا ينتحب على الحجر غير الحجر). والمقارنة هي مرة أخرى مع خريف إنساني رقيق: (لكن هنالك في خريفك البعيد ينتحب الشجر والحجر والماء والناس معاً).
بطبيعة الحال لسنا بحاجة الى كثير من الدربة في قراءة الشعر لندرك أن الشاعر لا يهجو خريفاً أو طبيعة، وإنما يهجو البشر أو العلاقات البشرية حين تتسم بالتعالي، أو تسفر عن الاغتراب والألم، فالشاعر منفي عن وطنه ولا يجد في جمال الطبيعة في المنفى عزاء، بل يجد حتى في الجمال ما يذكر بغربته وببؤسه الاجتماعي، كأن الطبيعة تنحاز للبعض دون البعض الآخر. وهو ما يذكر بقصيدة للشاعر الإنجليزي أودن في رثاء الشاعر الايرلندي وليم ييتس يتحدث فيها عن (النهر الفلاح) الذي يرفض تغيير مصبه ليؤنس الأغنياء في مرافئهم الفارهة، فالنهر الفلاح في قصيدة أودن هو القرين لخريف الأرامل عند الشاعر الكردي، غير أن أودن يختلف في أنه لا يتحدث عن نهر آخر يحابي الأغنياء.
الذي يلتقي مع شيركو بيكه س لقاء أكثر حميمية هو الشاعر المصري صلاح جاهين في مقطوعته الشهيرة بالعامية المصرية (القمح مش زي الدهب) التي تعود إلى نوفمبر 1951.
القمح مش زي الدهب
القمح زي الفلاحين
عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين
زي اسماعين
ومحمدين
وحسين أبو عويضه اللي قاسى وانضرب
علشان طلب
حفنة سنابل ريها كان بالعرق
عرق الجبين
القمح زي حسين يعيش يأكل في طين
أما اللي في القصر الكبير
يلبس حرير
يبعت رجاله يحصدوها من على
عود الفقير.
هذا النص الغارق في البساطة والعذوبة هو غارق في الشعر ايضا (وليتذكر هذا من يبالغون في تعقيد صورهم الشعرية)، فإن كان بعيدا عن النحو فإنه بعيد ايضا عن البلاغة المتورمة بالتكرار، الشعر هنا يأتي من الابتعاد عن المعاد الممل، من اقتناص الصورة المدهشة، من اللجوء الى المفارقة الشعرية التي تصادم تشبيها تقليديا ومستساغاً بين القمح والذهب، ثم توغل في الربط بين القمح والفلاح عبر نحالة البدن من ناحية، وعبر التجذر في الأرض من ناحية أخرى، ومثلما يفعل الشاعر الكردي، يتجه الشاعر العربي المصري إلى الذهب ليجعله ربيب الأغنياء، عدو الفقراء: (اما اللي في القصر الكبير) يلبس حرير.. هذا الغني الذي يملك الذهب هو الذي يسطو على قمح الفقراء حين يبعث برجاله لحصاد القمح من على عود الفقير. مما يجعل القمح ليس مختلفا عن الذهب فحسب، بل عدواً أيضا لذلك الذهب المنحاز، كما هو خريف الأغنياء في منفى الشاعر الكردي.
|