* دمشق - الجزيرة: عبد الكريم العفنان:
الصورة الأكثر وضوحا لكافة التحركات السياسية الحالية، هي وضعية «إسرائيل» كدولة بعيدة عن محاولة لإيجاد استقرار مستقبلي للمنطقة. فالدعوات اليوم لقمة إقليمية أو التشاور للبحث في أزمة المنطقة تنتهي عمليا عند حدود السياسات الإسرائيلية. وشكل الشرق الأوسط كما يبدو وسط الأزمة العراقية بعيد تماما عن صورة «الشرق الأوسط الجديد» التي ظهرت بعد حرب الخليج الثانية. لكن ابتعاد إسرائيل يشكل أزمة أكثر من كونه أرضية يمكن الاعتماد عليها مستقبلا؛ لأن استبعاد إسرائيل ينبع من التخوف المستقبلي لدورها بعد انتهاء الأزمة الحالية، خصوصا من قبل تركيا التي تعتبر أكثر دولة لها علاقة مباشرة مع تل أبيب. وعمليا فإن معظم التحليلات تتجه إلى التقليل من إمكانية انعقاد قمة إقليمية في أنقرة، فالمؤشرات تدل على صعوبة التوصل عبرها إلى صيغة للقرارات أو التوصيات بشأن العراق، وربما لهذا السبب ظهر الطرح السوري، والذي لم يعلن رسميا حتى الآن، بضرورة اجتماع وزراء الخارجية لنفس الدول في دمشق. فسوريا التي تكثف اتصالاتها ما بين تركيا وأنقرة والرياض لم تطرح حتى الآن دعوة رسمية لوزراء الخارجية، ولم تعلن أيضا رفضها لقمة أنقرة. لكن تحركها الدبلوماسي يشير إلى أنها تسعى نحو آلية مشابهة لا تحرج الدول المعنية بهذه القمة، ومن جهة ثانية تستطيع تفعيل آلية قادرة على منع الحرب إن أمكن. فالاقتراح التركي الذي لم يكن مفاجئا لمختلف الأوساط السياسية يعاني عمليا من اختلاف طبيعة العلاقة التي تربط هذه الدول مع الولايات المتحدة، التي تعتبر أكثر الأطراف الدولية تحمسا لخوض معركة ضد النظام العراقي. فالقمة في حال انعقادها ستواجه آليات مختلفة في التعامل مع الحشود العسكرية الأمريكية، أو التوجهات السياسية لواشنطن نظرا لدرجة الترابط العسكري في بعض الأحيان بين بعض الدول وأمريكا مثل تركية، او شكل العداء تجاه أمريكا كما يظهر في سياسة إيران، وبالتالي فهي غير قادرة على الخروج بتوصيات واضحة.
من جانب آخر فإن الظرف الدولي لا يعطي أي هامش لحرية التحرك، فالاختلاف لا يعني الانتقال إلى مرحلة جديدة من الحوار، لأن الزمن يحتاج إلى قرارات وتحرك سريع. ففشل القمة سيؤدي إلى كارثة لن تكون أسوأ من الحرب نفسها. وهذا الأمر يشكل رهان الولايات المتحدة على وجه الخصوص، والتي تعتبر أن أي تماسك في الحالة الإقليمية ربما سيؤخر من إجراءاتها ضد العراق، وتحركها اليوم بغض النظر عن الأسباب المعلنة له، موجها بالدرجة الأولى للنظام الإقليمي الذي تسعى واشنطن إلى خرقه بشكل استراتيجي. فالفشل لهذه القمة يعني إعادة الصيغة الإقليمية لمرحلة الحرب الباردة، عندما تتنازع الشرق الأوسط اتجاهات مختلفة ومتضاربة.
كما أن انعدام الوضوح لصيغة الحرب المحتملة او للحلول السياسية والسلمية، لا يساعد في الدخول بمشاريع ربما تحمل فشلها منذ لحظات انطلاقها. فإذا كان من المستبعد تراجع الولايات المتحدة عن نيتها بالحرب، فإن خيارات النظام السياسي في بغداد معدومة أيضا. ويبدو من المستحيل اليوم إيجاد تسوية على قاعدة خروج النظام من الحكم بشكل عادي، أو إحداث تبدل في الجغرافية - السياسية العراقية تتيح تغير الوضع القائم حاليا.
عمليا فإن التوجه السوري الرسمي واضح في مسألتين هما: رفض الحرب والتمسك بوحدة العراق. والتحرك السياسي لدمشق يتم بين هذين الأمرين، لذلك فإن إمكانية انعقاد اجتماع لوزراء خارجية نفس الدول المدعوة للقمة يبدو حلا أكثر ديناميكية. وبالطبع فإن استباق الحدث ضمن هذا الظرف بالذات لن يكون مفيدا. فالخارجية السورية لم تعلن دعوتها لمثل هذا الاجتماع، ولا يعدو الأمر مجرد تسريبات جاءت من بعض العواصم العربية. لذلك فلا يمكن قراءة مستقبل التحرك السياسي للمنطقة على مثل هذا الافتراض. إنما من الممكن النظر إلى الحركة السياسية السورية على أنها تنشيط للقنوات السياسية اعتمادا على ضرورة البحث في كافة الحلول من جهة، وإيجاد دور إقليمي وعربي من جهة أخرى.
التحرك السوري آفاق وترتيبات
وزير الخارجية السوري الذي زار كلا من طهران والرياض، سبق له ان تباحث مطولا مع المسؤولين الأتراك قبل أيام قليلة. ولكن الحركة السياسية لا توحي بان هناك رسائل متبادلة فقط، لأن الخطوط الدبلوماسية مفتوحة بالكامل. كما ان سورية لم تصرح عن مشروع سياسي معين، وبالتالي فإن الواضح أن هذا النشاط السياسي يهدف بالدرجة الأولى الى التعامل مع كافة الاحتمالات. والتيار السياسي اليوم يتجه نحو مسائل الأمن الإقليمي وما ستحمله الضربة من انهيار له. لكن يبدو أن سورية المعنية بشكل مباشر بهذا الأمن، تريد أيضا غطاء عربيا لمثل هذا الأمر الذي يكتسب حيوية كبيرة في مثل هذا الظرف. فالمسألة كما تبدو في التحرك السوري تتجاوز الحدث فقط، لأن هناك مجموعة من الأسئلة التي ستواجه المنطقة مهما تباينت ظروف الحل المحتمل للمسألة العراقية:
أولا - فسواء اندلعت حرب في المنطقة أم تم حل الأمر سلميا وفق شكل من التوازنات الدولية والإقليمية، فإن السؤال الذي يواجه سورية، والمنطقة بالإجمال يتعلق بأولويات المرحلة القادمة، لأن الترتيبات السياسية الجارية اليوم توحي بأن هناك حلولا ستقدم لموضوع التسوية بعد الانتهاء من الموضوع العراقي.
ثانيا - مهما كانت احتمالات نهاية الأزمة الحالية فهناك ترتيب لإسرائيل ظهر بوضوح منذ بداية التصعيد. فإسرائيل اليوم مستبعدة من مسألة الأمن الإقليمي حتى من قبل تركيا. والسبب يعود إلى دورها المباشر في حدث عسكري، ولكونها حسب التصريحات الأمريكية ستلعب دورا في حل مرتقب. من هنا فإن المستقبل يطرح ضرورة مواجهة الأدوار التي تخطط إسرائيل للعبها داخل الخارطة الإقليمية.
ثالثا - التكوين الإقليمي المرتقب وذلك في ظل اندلاع حرب، او التوصل إلى حل سياسي للموضوع العراقي. فمهما اختلفت الآليات إلا أن بعض القوى السياسية ستظهر بقوة وستلعب في الجيوبولتيك للمنطقة إجمالا. مما يعني أن التوازن الإقليمي بحاجة إلى قراءة جديدة.
وفق هذه الأسئلة يأتي التحرك السوري أكثر وضوحا في إعطاء بعد عربي قوي لأي آلية مستقبلية. لأن الشرق الأوسط سيواجه نتائج الأزمة الحالية بغض النظر عن طبيعة الحلول المطروحة. وهذا يتطلب إيجاد مخرج استراتيجي بعد أن انكشفت المنطقة أمام حجم الضغوط الدولية. وربما بهذا الإطار يمكن فهم زيارة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام إلى موسكو. فهي أيضا ضمن محاولة رسم هذا المخرج الاستراتيجي. لكن الواضح أن مسألة التوازن الإقليمي لن تعود إلى صيغ تقليدية، لأن الظرف الحالي يستدعي إعادة النظر إلى طبيعة القوى القادرة على التأثير في هذا التوازن، خصوصا أن الولايات المتحدة رغم نفوذها وقوتها، تجابه حالة قصوى من الرفض الذي ينتقل بشكل مباشر من الشارع السياسي إلى مراكز القرار.
|