المتقاعد تجربة شخصية ورؤية مستقبلية
د. عبدالرحمن الانصاري*

أظن أنه قد طلب مني أن أتحدث في هذه الجلسة الافتتاحية باعتباري متقاعداً أو لأنهم رأوا أن تجربتي الأكاديمية وعضويتي في مجلس الشورى لدورتين قد تمكنني من إعطاء أبعاد أخرى تصب في مصلحة المتقاعدين أو تنصف الجهات ذات العلاقة بهم، وفي البداية أقول إن الجهات المتصلة بالمتقاعدين هم أبناء المتقاعدين واخوانهم وأقاربهم وأبناء وطنهم ولولا هذا الشعور النبيل الذي يكتنف كل واحد من الطرفين ما كان للأنظمة أن توضع وأن تعدل وتعدل بما يكفل حياة كريمة للفرد في بلد يشعر أنه يجب أن يكون الأنموذج للتكافل الاجتماعي وحفظ كرامة المواطن ونشأته النشأة المثلى، وحياته التي يجب أن تكون انعكاساً لما نحن عليه حقاً.
حاولت قدر الإمكان أن أجد كلمة مناسبة بديلة عن كلمة المتقاعد، فلم أجد، ونظرت في قاموس اكسفورد فلم يمدني بشيء، وكل التعريفات تردد مفردات هي التوقف عن العمل - كبر السن أو المرض - عوض مادي يساعد الإنسان على استمرار العيش بقية حياته.
هذه الكلمات الحقائق تختلف في مدلولاتها وتفاعلاتها من عمل لأخر ومن جهة حكومية لأخرى ومن مركز قيادي لآخر، ولكنها تجمع على أن سن الستين هو الحد الفاصل بين عمل مبرمج وعمل آخر قد لا يكون هو الأفضل، ولكنه العمل المتاح بالنسبة للبعض، كما أنه الحد الفاصل بين العمل الذي يحد من حركتك ونشاطك وبين حريتك وشعورك بأنك تحقق ذاتك وتعمل ما تريد وقتما تريد حيثما تريد، وكلا الفهمين فيهما خدمة للوطن أولاً وآخراً. الوطن يأخذ منا قوانا الجسمية لتسير حركة الحياة ولأن العمل قيمة حثنا عليها ديننا، أما ما بعد ذلك فهي نعمة من الله يهبها لمن يشاء من عباده وللمواطن أن يشكلها بالطريقة التي تتيحها له عوامل مختلفة وأهمها ما بقي له من طموح قد يحقق به ما لم يحققه من ماضي حياته.
لقد وهبت نفسي للعمل ولله الحمد منذ نعومة أظافري وأصبحت عضو هيئة تدريس في جامعة الملك سعود بالرياض وكنت وأبناء جيلي من الرواد الذين عادوا من بريطانيا عام 1966م وانكفأنا على البناء من الداخل، جئنا وقد كانت الجامعة وعلى الأخص كلية الآداب بأيدي زملائنا من الأكاديميين العرب وغير العرب أما الابتعاث أما التوسع في التخصصات أما النشاط الأكاديمي، البحث العلمي فلم تكن لهذه الأشياء نصيب يذكر وشمرنا عن سواعدنا وبدأنا البناء من الداخل، طلاب يبعثون وأقسام وتخصصات جديدة تفتح ومتاحف ومعارض تنشأ ومجلات علمية تبدأ وجمعيات علمية تؤسس وهكذا صنع رواد الكليات الأخرى حتى أصبحت جامعة الملك سعود في مصاف الجامعات العربية، بل والعالمية بكفاءاتها المتميزة في كل تخصص وخاصة في المجالات العلمية والتطبيقية إلى جانب المجالات الإنسانية وانتشر أبناؤها فكانوا اللبنات التي شاركت في بناء هذا المجتمع.
هذه نافذة أفتحها لأنقل صورة عن جيل قضى أكثر من نصف قرن في سبيل البناء أدى دوره وسلم القيادة لجيل وطني آخر نرجو أن يكون له من العطاء الشيء الكثير وأن يرفع فوق الأسس التي وضعها جيلنا. خرجنا من هذا الصرح العتيد وقدرنا لجامعتنا عدم احتفالها بتقاعدنا لأنها وجدت أن ما حققناه أكبر من أن يحتفل به في مناسبة لا ترقى إلى مستوى العطاء الذي قدمناه.
حاول بعض أبناء جيلنا أن يتعاقد مع الجامعة وصبر على الطريقة التي يتقدم بها الأستاذ وعلى الروتين المحزن الذي لا بد أن يسلكه طلبهم وعادوا إلى أقسامهم ولكنهم شعروا لأول مرة أن شكوى المتعاقدين من زملائنا العرب كانت في مكانها فانسحبوا لا يلوون على شيء. إذن فالتعاقد بالطريقة التي وضعها النظام والطريقة التي يسلكها المتقدم حتى يتعاقد معه لا تشجع على ذلك لأن من كان في الصدارة يوماً ما لا يرضى بما هو كائن.
انخرط هذا الجيل في العمل في أعمالهم الأكاديمية وبدأوا يستثمرون خبرتهم فوجدوا من المجتمع خارج الجامعة أيد كريمة وقفت معهم وشجعتهم، ذلك هو المجتمع الذي ينظر بتقدير واحترام من الخارج لكل من كافح وبنى بإخلاص ومحبة.
وماذا بعد؟ إن المتقاعد مهما كان مستواه مدنياً كان أو عسكرياً يبدأ بعد انقطاعه عن الحضن الذي كان يجد فيه الدفء في البحث عن ركن مكين وخاصة أولئك الذين ألفوا الحركة والبحث عن عمل يخفف عنه غائلة الزمن وبرودة البيت وكلمات الشفقة التي يسمعها من الآخرين، ولكن هذا المتقاعد قد فقد أشياء كثيرة لعل فيما أطرحه من أفكار تساعد في إشعار هذا المواطن بأنه ما زال يجد من الرعاية ما هو أهل لها:
1. لعل من أهم الأشياء التي يواجهها المتقاعد والمتقاعدة هو وجود جهة تقوم بإصدار تعريف أو توثيق أوراقه أو ختمها للجهات التي تطلب مثل ذلك وهذا ما واجهته في أولى أشهر تقاعدي فهل للمتقاعدين أن يكون لهم نصيب في جهة أو إدارة تتبع وزارة الخدمة المدنية لكي تؤدي خدمات المتقاعدين والمتقاعدات من تاريخ تقاعدهم وقضاء الأمور التي يحتاجون إليها.
2- بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس والمعلمين والمعلمات اقترح إنشاء صندوق يشتركون فيه ليسهم في تحسين أوضاعهم المالية بعد تقاعدهم لينتقلوا وبطريقة تلقائية من أستاذ متفرغ إلى استاذ غير متفرغ أما بالنسبة للمعلمين والمعلمات فإنه يسهم في رفع مستوى دخل الذين يرغبون منهم في العمل في المدارس الخاصة أو الخيرية.
3- العمل التطوعي عمل خير وبر ولذا حبذا لو تنطلق هذه الدعوة من الجهات التعليمية للإسهام في أي عمل خيري في مجال التدريس أو الخدمات الاجتماعية المختلفة.
4- المتقاعدون والمتقاعدات وقد شحت مواردهم إلا من تقاعدهم الشهري في حاجة إلى مراكز صحية خاصة بهم باعتبارهم مسنين وأمراض الشيخوخة تستحق أن يعتنى بها في مجتمعنا المسلم وفي حاجة إلى إعفائهم من بعض الرسوم الحكومية.
5- أن حاجة المتقاعدين والمتقاعدات إلى جمعيات تعاونية ملحة في كل مدينة وقرية، بل وفي كل حي تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فمثل هذه الجمعيات يتولى العمل فيها المتقاعدون أنفسهم كل حسب مستواه الفكري والجسماني.
6- إن قلة دخل بعض المتقاعدين والمتقاعدات يجعل من الضروري إعادة النظر في الحد الأدنى بحيث يكون حسب سنوات الخدمة يبدأ من 1500 كما يبدأ من 3000 ريال شهرياً إلى جانب زيادة سنوية تمنح حسب سلم تنازلي بنسبة لا تزيد عن 25% من العلاوة السنوية للمرتبة التي كان عليها قبل التقاعد كما هو متعارف عليه دولياً لمقابلة ارتفاع مستوى المعيشة.
7- إن المستوى الصحي الذي أصبح - ولله الحمد - يتمتع به المتقاعد والمتقاعدة يجعل من الضروري استمرار سن العمل إلى سن الخامسة والستين أو السبعين، إذ أن ذلك لا يكلف الدولة كثيراً لأن جزءاً كبيراً من الراتب الذي يأخذه هو حق له وخاصة أن من تقاعدوا وهم يشغلون المرتبة 11-15 لا يتجاوزون 21% من المتقاعدين حسب ما جاء في ورقة العمل الموحدة المقدمة من الدكتور السلطان والأستاذ بن طالب من معهد الإدارة، كما أن استمرار العمل يقلل من عدد المتقاعدين وخاصة في المراتب العليا ويوفر على الصندوق أموالاً وخبرة إدارية وأكاديمية.
8- أن يقوم القطاع الخاص بتقديم خدمات خاصة بالمتقاعدين والمتقاعدات كالفنادق وشركات السياحة والطيران والنقل الجماعي بين المدن وشركة الاتصالات والمدارس والجامعات الأهلية وشركات الحج والعمرة والعمل في النواحي الأمنية بالنسبة للمؤسسات المختلفة والبنوك.
9- إيجاد الوسائل التي تجبر الموظف على التمتع بإجازته السنوية وتيسير الحصول على إجازة بنصف مرتب لفترة ثم إجازة بدون مرتب حتى يتعود على البعد عن الوظيفة كما هو معمول به في النظام العسكري بما يسمى نظام الاستيداع.