يعاني الباحث في تاريخ نجد من انعدام المصادر التي تتحدث عن فترات معينة من هذا التاريخ، كما يعاني من شح المصادر في حقب تاريخية اخرى، وربما يرجع هذا النقص الى اسباب اقتصادية وعلمية واجتماعية اسهمت في الانشغال عن التدوين التاريخي، وربما ارجع بعض الباحثين ذلك تحديدا الى غلبة الطابع الزراعي على اقتصاديات هذه المنطقة قديما، او الى بعدها عن مركز الدولة في غالب العصور التاريخية التي انقطع فيها التدوين ولاسيما منذ القرن الرابع الهجري وحتى القرن الحادي عشر منه، او الى غير ذلك من اسباب يهدي اليها الاجتهاد والتحليل والنظر العقلي، الا انها لا تصل الى حد الجزم.
فإذا كان الحديث عن انساب اهل نجد فإن الصعوبة اكبر، لأن الحياة العلمية في هذه المنطقة آنذاك كانت ضعيفة، وبالنظر الى صعوبة العلم بالانساب وما يتطلبه من دراية واطلاع ومتابعة وانه بسبب ذلك مما يختص به نفر قليل من الناس فإن اهمية التدوين والكتابة تبدو واضحة جلية، الا ان طبيعة المجتمع النجدي آنذاك لم تكن مهيأة لهذا المطلوب المهم، ولا يمكن مقارنة المجتمع النجدي بالمجتمعات الاخرى في الحجاز او في الشام مثلا في تلك الفترة، لاختلاف الطبيعة الاتصالية والثقافية بين المجتمع النجدي وبين تلك المجتمعات من حيث الحركة العلمية، ومن حيث الانفتاح على المجتمعات والثقافات الاخرى.
وعلى الرغم من هذا القصور في تدوين انساب اهل نجد فإن مصدراً مهماً لم ينقطع ابدا، وبقي شاهدا بصورة قاطعة على الانساب، وظل ملهماً للقائمين على اعداد مشجراتها، ذلكم المصدر هو وثائق الوصايا والاوقاف والاعمال التجارية التي عنيت بتسجيل اسماء وانساب الواقفين والموصين والمستحقين لها والناظرين عليها وصيغ العقود التجارية، لأن هذا التدوين يأتي امتثالاً لشرع الله عز وجل، فلم يلتفت الناس في نجد او في غيرها تحت اي ظروف الى العوائق في سبيل الامتثال للشرع وحفظ الحقوق، الا ان هذا المصدر المهم لم يسلم من التعدي عليه بإخفائه او اعدامه بسبب النزاعات على الحقوق حينا بين الورثة، او الخوف من هذه النزاعات احيانا اخرى.
وفي ظل هذه الصورة القاتمة عن تدوين تاريخ منطقة نجد تأتي المحاولات البحثية الجادة من الباحثين المهتمين بالتاريخ عموما وبتاريخ هذه المنطقة خصوصا كقطرات الماء العذب للظامئ في لهيب الصحراء القاحلة.
ومن هذه القطرات العذبة: كتاب «نبذة في انساب اهل نجد» لمؤلفه جبر بن سيار، المتوفى عام 1085هـ/ 1664م الذي قام بإخراجه، من غياهب المخطوطات الى رحابة النشر العام والتعريف به وتحقيقه ودراسته الاستاذ راشد بن محمد بن عساكر ذو الجلد البحثي في التراث ولاسيما فيما يتعلق منه بمنطقة نجد والرياض خصوصا، وصدرت طبعته الاولى عام 1422هـ عن مكتبة ذات السلاسل بالكويت في مائتين وتسعين صفحة.
عند مطالعة غلاف هذا الكتاب سيبهرك جمال الخريطة الملونة التي زينته، وهي اقدم خريطة عثمانية لشبه الجزيرة العربية قام بإعداد اصلها حاجي خليفة المتوفى سنة 1657م، ثم تأتي المقدمة عن اهمية تدوين الانساب وتاريخه مشيرا الى ندرة هذا التدوين في منطقة نجد، ومنوهاً بما كتبه الشيخ احمد بن محمد بن بسام المتوفى سنة 1040،وما كتبه جبر بن سيار المتوفى سنة 1085 في نبذته المختصرة، ومنبها الى مافي هذه النبذة من اخطاء وان هذه الاخطاء لا تلغي اهميتها.
وفي مدخل الكتاب تحدث الاستاذ راشد بن عساكر عن طبقات الانساب والاهمية المرجعية لكتب الانساب واهم فوائدها، واسباب شح المصادر في تاريخ نجد واهم كتب الانساب المتداولة، واهم الكتب والكتابات عن انساب اهل نجد، ثم عرج المحقق الى التعريف بالمؤلف جبر بن سيار من حيث نسبه وحياته وامارته ومنزلته الشعرية وعصره، والتعريف بالمخطوطة من حيث موضوعها واهميته وتوثيق عنوانها ووصف نسخها والتنبيه الى مصادرها، وبيان الملحوظات حولها، ومنهج تحقيقها، وقد جاءت الدراسة في احدى وثمانين صفحة.
وفي نهاية الكتاب ارفق المحقق صورا من المخطوطة وصورا اخرى من بعض الوثائق والمخطوطات النجدية التي ساعدته في التحقيق والدراسة، ثم صنع فهرسا للاعلام وآخر للقبائل وثالثا للاماكن وانتهى الى ثبت المراجع والمصادر المخطوطة والمطبوعة والدوريات.
كتاب «نبدة في انساب اهل نجد» لمؤلفه جبر بن سيار بتحقيق ودراسة الاستاذ راشد بن محمد بن عساكر جهد مشكور، ولبنة مهمة في بناء تاريخ وطني مبني على اساس علمي يعتمد على الاستقراء والتحليل.
وبالله التوفيق
|