Thursday 30th January,2003 11081العدد الخميس 27 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

تأملات.. في المسرح الشعبي تأملات.. في المسرح الشعبي
أي مسرح حقق البهجة .. استحق البقاء

اتخذ المسرح الشعبي أشكالاً متعددة، وطبع بسمات كل عصر من العصور. تغيرت ملامحه، أضاع صفاته البعض.. ألبسه آخرون أردية رثة.. وأخرى متباينة.. حسب مزاج العامة من الناس ومبتغى كل فريق.. وسببية وتأويل التبرير، لكنه «أي المسرح الشعبي» ظل في مختلف المطروحات التي تشكلت فيه على مر العصور بخاصية ثابتة وهي دوام علاقة الجدل الديالكتيكي بينه وبين مفردات الحياة.. واستغل بمناهج تعبوية.. واستثمر لغايات تحريضية متعددة الغايات لكنه ظل متغير الوسائل.. جدليا.. متطورا.. مع وضوح معرفته بالعصر وبالأخلاق والعادات السائدة التي قد تتقاطع فيما بينها أو مع توجهات مؤسس الخطاب في العرض المسرحي.. إلا انه بقي مرآة الحياة وانعكاس صورة غير المرئي فيها.
فالقوانين العامة التي تحدد سمات العصر تظهر بجلاء في خطاب المسرح الشعبي ووسائله.. يتأثر بها.. ويؤثر في بنيتها. وفي كل الأحوال فالمسافة غير المحسوبة مكانيا بينه كانتاج وبين الحياة لا تتسع فتصبح هوة.. فذلك يعني ان يغلق المسرح أبوابه ويقاطعه الطرف الآخر وذلك أمر يوجب حدوثه الجدل بين فكر المنتج والذوق العام الأخلاقي والتربوي وقد عرف منتجو الخطاب المسرحي هذه العلاقة منذ البداية وهاهي مصادر المسرح الإغريقي تحدثنا عن التقاطع والتصادم الذي جرى بين يوربيدس في مسرحيته هيبوليوس والتي اعتبرت خطوة متقدمة لما يسمى بالمسرح الشعبي الذي انفلت من القوانين التي كانت تحدده. إن النوازع التي تتصارع في صدر «فيدرا» والتي تبوح بها لمربيتها تتقاطع كليا مع أخلاقيات العصر آنذاك وهذا ما جعل الجمهور يعزف عن مشاهدة المسرحية فتفشل فشلا ذريعاً يدفع بيوربيدس لكتابتها من جديد.. لقد فشلت المسرحية لكنها أسست لمواجهة ستبقى قائمة بين المسرح الشعبي ومفردات الحياة العامة.
فيدرا: إن ما يدمر المدن العامرة، ومنازل البشر هو الكلمات المنمقة أكثر من اللازم، فليس من الضروري ان ينطق المرء بما يسر الأذنين، بل بما يحفظ له سمعته الطيبة. خطاب فيدرا هذا دليل واضح على التقاطع القصدي بين خطاب يوربيدس وثواتب الحياة العامة آنذاك وهو ما يمكن ان يؤسس مرجعا تاريخياً للمسرح الخشن الذي تتدفق به العواطف وتعلن الرغبات دون تحفظ وديمومته هي نتاج ايجابي لاستمرار الجدل.. وعلى أساس ذلك فمثل هذا المسرح يولد ليستمر.. وهو في كل الأحوال وريث الحضارات وطبيعة المجتمعات، ومن خلاله يمكن التطلع بوضوح لطبيعة حقبة معينة من الزمن، فهو يتعارض معها ويتكامل بها في نفس الوقت.. يكون فيه المبدع محرراً من سطوة المجتمع وأخلاقياته لكنه على علاقة مستمرة مع تلك القوانين العامة.. المسجلة.. وغيرها من ضوابط الأعراف المتوارثة.. فأي شخصية من شخصيات المسرح الشعبي لابد أن يكون لها امتداد عبر نماذج في الحياة العامة لأنها شخصية حية.. وتصبح كذلك كلما اجتهد المؤلف في تصويرها بدقة وقلل من نوازعه الذاتية التي يفرضها البعض بشكل قسري كخطاب ذاتي.. فهي ليست فكرة مجردة.. لا يمكن ان تكون كذلك فحسب رغم تحميلها بعض تلك الأفكار التي قد لا تفكر بها في الحياة العامة.. هي ذات محررة من سطوة المؤلف قليل التأمل وغير المبدع.. فهذا يكسرها فتتشظى، والمبدع يسايرها حتى النهاية.. لا يرغمها على حمل فكرة ما رغم أنه يغذيها بأفكاره على الدوام.. وعلى أساس تلك الخشية يمكن تفسير المعنى الحقيقي لاعجابنا بالعديد من الشخصيات التي قرأناها أو شاهدناها على المسرح وتلمسنا خطابها.. فشخصيات مثل البخيل لدى مولير.. و«بيبل» ومن معه في مسرحية الحضيض لدى غوركي وأبطال مسرحيات أبسن وتشيخوف وآرثر ميلر وغيرهم العديد من الكتاب المبدعين.. وهذا الأمر تكامل مع قدرة المخرج على اظهار تلك الحيوية وتفجيرها وهو ما فعله العديد من المخرجين كوليام بويل ومحاولاته الرائدة لبث الروح في الأعمال الشكسبيرية أعادتها الى الأصل الذي ولدت فيه «مسرحا له علاقة وطيدة بعصره» وهو ما انعكس على العلاقة الابداعية التي ربطت تشيخوف وستانسلافسكي وكذلك ما سعى اليه كوكتو وبرشت وهارولد بنتر وتشيخوف.. رغم ان الأخير أعطى ثقلا كبيرا للخطاب السياسي في مسرحياته من خلال فكرة التغريب وغير هؤلاء العديد ممن يسميهم بيتر بروك «ذوو الجباه العالية.. إذ يقول: إن هؤلاء ذوو الحباه العالية يرجعون الى الشعب».
إن تفعيل المخيلة الابداعية صوريا.. لا يتقاطع مع المفهوم الجمالي للمسرح الحي.. الشعبي.. ولكنه ينأى عنه كلما زاد في تحطيم المنطق وثوابت الواقع وحمل مادتها بعد اعادة صقلها وأضافها لتداعيات الصور المنفلتة والتي عندما تتكامل تخاطب عقولنا وذواتنا بنفس القدرة الابتكار للمسرح الحي إذا لم تزد عليها افتراضات المخيلة الابداعية التكاملية بين المنتج والمتلقي.
إن مادة المسرحية الشعبية تولد من - اليومي - ولهذا قد نجد بعض الكتابات التي تنال اعجاب الكل.. لكن لفترة سرعان ما تختفي باختفاء مفردات وجودها بالحياة.. فتبدو غريبة.. على العكس من العديد من الأعمال في المسرح الشعبي التي تتناول ما هو يومي لتؤسس خطابا أخلاقياً، فكرياً.. شمولياً، ومهما توالت العصور فجرت مفردات جديدة في ذلك النص الذي ولد من اليومي ليبقى على مر العصور بعد ان نجح بتصوير الذات تصويراً دقيقاً.. فأعطى لها أكثر مما أعطى من ثقل لمفردات العصر الآنية.
إن مسرح البهجة شكل من أشكال المسرح الشعبي.
- يؤكد تايرون جوثري: إن أي مسرح حقق البهجة.. استحق البقاء..، وللبهجة أشكال متباينة.. كما ان للسعادة طرقا متعددة.. لا يلغي أحدها الآخر ولا يحتل وجوده، شرط أن لا يكون المنتج «بفتح التاء» رثا فكريا وأسلوبيا.. فإذا كان مسرح التداعيات الصورية يحيل كل ما هو غير مرئي.. مرئيا فكرا وجمالا.. فإن المسرح الشعبي المتكامل البناء يحيل جدل الصراع الآني الى شمولي.. وكلاهما سعي فكري لتأسيس خطاب هدفه الانسان.. الحياة.. الموروث.. المخيلة.. القوانين.. حقيقة الوجود.. وهو في كل الأشكال والصيغ غير منفصل عن ذات المبدع فصدمة الواقعية تحطم ثوابت ما هو كائن في كينونة المخيلة.. وتفجر طاقتها.. وصدمة التغريب تعيد صهر المادة المتعارف عليها كموروث لترينا مناطق العلة فيها وأسباب تلك العلل.
المعادلة الصعبة التي يواجهها المسرحيون.. باعتبار ان العمل المسرحي عمل جماعي تتجسد في تسرب ما هو رث من الأفكار ومفرغ. فإذا كان خطاب المسرح التجريبي.. الطقسي.. الصوري.. يمثل رؤية المخرج فحسب، ففي مدارات تلم الرؤيا يتجسد آخرون في المسرحية الشعبية.. وهو ما يجعل التجربة في المسرح الشعبي أكثر خطورة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved