أعتقد أن للبيئة، وتحديداً الجغرافية دوراً مهما ومؤثراً في تكوين ثقافات الشعوب بل أعتقد أن لها الدور الرئيس في ذلك، فالبيئة هي التي تصنع الثقافة، وتحدد ملامحها، انطلاقاً من سعي الإنسان المستمر للتأقلم مع الظروف المحيطة به، ومحاولة الاستفادة منها بشكل إيجابي، يمكنه من تحقيق متطلباته وتطلعاته الإنسانية، ضمن ما تتيحه له من امكانات وما تفرضه أو تتطلبه من شروط، وما تتيحه من مساحة للفعل أو الحركة.
فمن خلال البيئة تتحدد طبيعة أو نوع الأنشطة الإنسانية أو الاقتصادية التي يمكن أن يمارسها المجتمع في مكان ما، فالجماعات التي تسكن شواطئ البحار، تمارس مهناً ترتبط بالبحر، كالصيد والتجارة، ومجتمعات الصحراء ربما لا تجد أمامها من سبيل سوى ممارسة الرعي، بينما المجتمعات التي تعيش في أراض خصبة تمارس الزراعة وما يرتبط بها من صناعات.وكل مهنة من هذه المهن تستند إلى مرجعيات خاصة، وتنطوي على العديد من المفردات والعادات والتقاليد والطقوس والفلكلورات.. إلخ، بمعنى أنها تنطوي على ثقافة خاصة، تميز الجماعات التي تمارسها وتؤثر في سلوكياتها، وطرق تفكيرها وأنماط حياتها.كما أن لطبيعة التضاريس أيضاً تأثيراً في صياغة أو تشكيل الشخصية الثقافية الفرد أو الجماعة، فالجماعات التي تقطن مثلاً أماكن جبلية وعرة، تكون أقل انفتاحا على البيئات الأخرى، وبالتالي تكون ثقافتها أقل فاعلية وثراء، وأقل تأثيراً وتأثراً، من تلك التي تقيم في مناطق سهلية مثلاً، مما يتيح لها مجالاً أكبر للحركة والتفاعل.وكذلك فإن للمناخ وللطقس تأثيراً أيضاً في هذا المجال، فالطقس الحار مثلاً يفرض نوعاً من اللباس للتأقلم والتكيف معه، وكذلك يرفض طرزاً معينة من البناء، وهكذا، مما يوجد في المحصلة أنماطاً متعددة ومتباينة، أو بمعنى آخر ثقافات، وهو ما يعني أن الثقافة سعي إنساني مستمر لإيجاد نوع من الانسجام أو التوازن مع المحيط أو البيئة، وبالتالي فإن المثقف هو الإنسان المنسجم مع محيطه بكافة أشكاله، وبمعنى أيضاً أنك لو وضعت «بيار بورديو» في مضارب بني عبس موديل 2003 ، سيكون أقلهم ثقافة.كما أن ذلك الانسجام أو التكيف لا يتحقق إلا من خلال عمل مستمر وجاد، ومعاناة ربما{يّا أّيٍَهّا الإنسّانٍ إنَّكّ كّادٌحِ إلّى" رّبٌَكّ كّدًحْا فّمٍلاقٌيهٌ}، وكأن الإنسان لا يحقق ذاته أو إنسانيته إلا من خلال ذلك الكدح المستمر، الذي يكون من خلال ارتباط الإنسان بالأرض ورائحة التراب حرثاً وزرعاً وتعميراً إلخ، وهو ما يعني أيضاً أن الثقافة بالإضافة إلى كونها أسلوب حياة هي أيضاً عمل وممارسة، والعمل بدوره يتطلب معرفة، كل هذه الأمور ربما هي التي تشكل الثقافة بمفهومها الأولي والبسيط.
لكن من المؤكد أن هذه الرؤية البسيطة لمفهوم الثقافة، لم تعد ممكنة الآن في ظل التحولات الكبيرة التي شهدها ويشهدها العالم، وأصبح هذا المفهوم يحتاج إلى إعادة صياغة، في ظل الواقع الجديد الذي أوجدته ثورة الاتصالات والمعلوماتية، التي ألغت كل الحدود الطبيعية والجغرافية، وغيرها، وأوجدت عالماً متداخلاً ومنفتحاً على بعضه، عالماً إلكترونياً، أو رقمياً ينفتح على كل الفصول والمواسم في وقت واحد، ولحظة واحدة، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى نوع من الخلل أو عدم التوازن بين الإنسان وبيئته الطبيعية والاجتماعية، ويوجد أنماطاً جديدة من الإنتاج، قد لا ترتبط بشروط وامكانات الواقع، بقدر ما ترتبط بواقع وهمي، خاصة في ظل السعي إلى تعميم أو تمرير نموذج حضاري معين من قبل المتحكمين في إنتاج هذه التكنولوجيا، وبعيدا عن كل ذلك يبقى التساؤل:
من هو المثقف في هذا العصر؟
هل هو المنسجم أو المتكيف مع بيئته الإلكترونية؟
|