في النصف الأول من القرن العشرين وقبيل خروج الاستعمار من المنطقة العربية كانت قد حيكت في كواليس سياسته الدولية مؤامرة سايكس بيكو «نسبة لوزيري خارجية بريطانيا وفرنسا آنذاك» والتي افضت الى تقسيم تركة الرجل المريض «الدولة العثمانية» الى امصار تفصل بينها حدود سياسية لتكون سدودا منيعة في المستقبل تحول دون وحدتها وتبنى على اعتابها جبال الكراهية والحسد والفرقة. وكان بعد سايكس بيكو وعد بلفور المشؤوم الذي غرس الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي وأنشأ وطنا قوميا لليهود يرعى مصالح الغرب في المنطقة ويكون الحارس الأمين لها. وانتقلت رعاية الكيان الصهيوني من الحضن الاوربي الى الحضن الامريكي وذلك بعد تنامي نفوذ وقوة الولايات المتحدة الامريكية على الساحة الدولية ولاسيما بعد تنامي مسلسل سيطرتها وسطوتها واحادية قطبها في ظل العولمة وانسحاب الدب الروسي من معترك التوازن الاستراتيجي العالمي بانهيار الاتحاد السوفيتي بعد ان تجمدت اوصاله وتكسرت بفعل الحرب الباردة وبمؤامرة حاكت خيوطها الصهيونية والامبريالية. واليوم يعيد التاريخ نفسه في دورة عنفه والعرب تائهين بين فرضية المؤامرة ونير قضايا التحرر الوطني فالعراق في مصيدة التاريخ وامريكا اليوم وباتفاقية سايكس بيكو جديدة اسمها بوش شارون تسعى لتغيير خارطة المنطقة السياسية من جديد واللعب بالخارطة الاقتصادية وذلك ببسط نفوذها على خوابي العسل من النفط العراقي وتسويغ فعلتها حسب تصريح ساستها بحجة حفظ الثروة العراقية لأبنائها ولا سيما بعد ترويج امكانية اضرام صدام النار فيها بعد انكساره، ولا سيما انه امسى نيرون العرب. فالانتداب الامريكي للعراق يلبس حلته الانسانية الجديدة ليحفظ ثروة العراق كأمانة لابنائه ولحين تطوير وامركة نظام ديمقراطي في العراق.
كانت احداث الثلاثاء الأسود «الحادي عشر من سبتمبر» في الولايات المتحدة الامريكية بمثابة سقوط القطرة التي ارقت سكون سطح المياه للمصالح الامريكية واطلقت صقور الحرب في ادارتها من اقفاصهم وفي صلب عقيدتهم «ان القط الذي يرتدي قفازا لا يصيد ابدا فأرا». وبعد ان دفعت امريكا بجيوشها وحلفائها الى افغانستان بحجة تطهيرها من فلول القاعدة ونجحت في زرع قدمها في مكان لم تحلم ابدا ان تكون على اعتابه «على باب الصين وخلف روسيا وايران وقريبا من الثروة النفطية المرتقبة لقزوين» استلت سيفها واشعلت حربا خلفية في العراق سرعان ما تحولت لحرب اساسية بحجة تهديد العراق للمنطقة. ورسالة امريكا واضحة في انها لن تدع احدا بعد الآن يلعب باعواد الكبريت لكيلا يطال الحرق اصابعها كما حدث سابقا. وكان من الواضح دور اللوبي الصهيوني في الحملة الكونية على الارهاب وتوجيه الدفة لسفن الحملة الامريكية عليها وذلك رغم وضوح ازدواجية المعايير. فكوريا الشمالية وهي على محور الشر في القاموس الامريكي ورغم اعلانها امتلاكها لبرامج تسلح نووية وطردها المفتشين الدوليين فان الولايات المتحدة الامريكية ولوعورة المنطقة والظروف السياسية والجغرافية في شبه الجزيرة الكورية مازالت تزكي الحوار والتفاوض. والعراق الذي امتثل لقرار الامم المتحدة واعلن عن عدم امتلاكه لاسلحة دمار شامل وقدم تقريرا من آلاف الصفحات عن تاريخ تسليحه فان امريكا مصرة على ضرب النظام وتنحيته. ورغم تعدد سيناريوهات ضرب العراق فان المنطقة على شفير الكارثة. ورغم الاجتماع السداسي الاخير للدول المجاورة للعراق «الأردن، سوريا، تركيا المضيفة، مصر، ايران، السعودية» فإن الصوت مازال خافتا لم يعكس سوى المخاوف مناشدا القيادة العراقية التي لاحول ولا قوة لها ان تنزع فتيل الحرب وتهاود وتخضع لتجنيب المنطقة هول كارثة الحرب وتداعياته. ومن مبدأ حفظ المقامات وعدم التدخل في شؤون العراق الداخلية كان موضوع تنحي الرئيس العراقي عن السلطة غائباً عن اجندة الاجتماع وذلك رغم ان المشكلة الحقيقية لامريكا محصورة في النظام العراقي وربما العربي مستقبلاً.
ان قدح زناد الحرب يتوقف الآن على تقرير خبراء الامم المتحدة هانز بليكس والبرادعي ورغم معارضة الكثير من الدول لخيار الحرب كفرنسا والمانيا وروسيا والصين التي تصر على تزكية الوسائل السلمية لحل الازمة وان يكون الخيار العسكري تحت مظلة الشرعية الدولية وبقرار من مجلس الامن فان الولايات المتحدة الامريكية مطمئنة في انها لن تمضي وحيدة في حملتها وقد صرح بذلك كولن باول «وزير الخارجية الامريكي» واضاف انه واثق تماما انه اذا اتت الحرب فسوف يشارك الامريكان شعوبا عديدة وقد ابقت الادارة الامريكية مسألة استصدار قرار جديد من مجلس الامن بشأن الحرب مفتوحا، وتقرير الخبراء سيركز على انتهاك العراق وفشله في تطبيق قرار مجلس الامن الاخير 1441 وعدم السماح لطائرات U-2 التجسسية بالقيام بعمليات مسح جوية واكتشاف الخبراء ايضا لصواريخ حليقة الرؤوس وقادرة على حمل رؤوس كيماوية ولم يرد ذكرها في تقرير العراق. فجل ما يسعى اليه الامريكان هو بيان كذب وزيف تقارير صدام لتكون حجة كافية لضرب العراق. فالنية مبيتة لدى الولايات المتحدة الامريكية لضرب العراق وكان هذا واضحاً في الجدل الذي دار مؤخرا بين البروفيسور بنجامين باربر «علوم سياسية من جامعة ميريلاند» ونائب وزير الدفاع الامريكي «وولف فيتز» حيث سأل الأول: لا ادري كيف تبني هذه الادارة «ويعني الامريكية» سياستها في حربها الوقائية على اساس انها تملك المعلومات ولكنها لا تستطيع ان تقول لنا كيف او من أين حصلت عليها وكل ما تفعله انها تؤكد امتلاكها للمعلومات وانه يتوجب علينا الثقة بها!؟ ويرد نائب وزير الدفاع قائلاً: أتريدون ان تثقوا بصدام أم بأمريكا؟
ان مكاسب الولايات المتحدة الامريكية من السيطرة على منابع النفط العراقي واراحة نظام صدام كبيرة، فهي بذلك تضمن وجودها في الخليج العربي بشكل فعال يؤمن ثبات تدفق الذهب الاسود في شرايين اقتصادها دون تذبذب ولا سيما بعد خيبة امالها في نفط قزوين «آسيا الوسطى» واحتمال تأخر قطف ثمارها والهدف الاكبر هو ضمان امن ربيبتها اسرائيل بالتحكم بمفاصل النزاع العربي الاسرائيلي وتحييد خطر العراق وخطر الثورة الاسلامية الايرانية ولا سيما بعد ان احاطتها بفكي كماشة من شرقها في افغانستان ومن غربها في العراق وتحد بذلك وتقطع خط التعاون بين ايران وسوريا وبالتالي تؤثر على دعمهما لحزب الله الذي يقض مضجع الصهاينة. وبمجمل الظروف تسعى الى دفع العرب لتقديم المزيد من التنازلات في قضية فلسطين وسيبقى الأردن حلا مثاليا لوطن بديل للفلسطينيين. وتحمل امريكا الورقة الكردية في جعبتها كورقة ضغط على وحدة العراق وعلى تركيا التي تخشى استقلالهم وبدء مناوشاتهم مرة اخرى وسعيهم للاستقلال في الجنوب الغربي من تركيا ومد تطلعاتهم للشمال الشرقي من سوريا، فورقة الضغط الكردي تفتح خطر باب التقسيم على مصراعيه امام العراق وتركيا وسوريا.
قال سائق تاكسي بسيط اوربي من اصل عربي: كلي يقين ان وكالة المخابرات الامريكية تستطيع ان تحدد الساعة عن طريق قراءة عقارب ساعتي هذه في معصمي واني استغرب كيف لم يجد حتى الآن خبراء نزع الاسلحة اية دلائل على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل؟.
من الواضح انه سيهرول وراء العراق في حربها دول مثل بريطانيا وبولندا واسبانيا والثمن في المضي قدما تجاه خيار الحرب بدون موافقة بعض الحلفاء كفرنسا والمانيا لن يكون إلا امتدادا أطول لبرود العلاقات التي فترت نتيجة النزاعات التجارية والاختلافات البيئية حول تسخين الكون ووجهات النظر المتباينة حول قضايا حقوق الانسان ومحكمة الجزاء الدولية.
وقد قال مؤلف كتاب الفردوس والقوة «روبرت كاغان» والذي يبحث في الفجوة السياسية والعسكرية المتنامية بين اوربا وامريكا «اذا مضت الولايات المتحدة الامريكية قدما في حربها رغم معارضة الفرنسيين والالمان فانها سوف تكون النهاية للتحالف عبر الاطلنطي»، ولتأليب المسرح الاوربي صب دونالد رامسفيلد «وزير الدفاع» مؤخرا الزيت على النار بتعليقاته قائلاً: «أنتم تعتقدون ان اوربا هي فرنسا والمانيا اما انا فلا اعتقد ان هذه هي اوربا القديمة فلو تمعنتم بحلف الناتو كليا ستجدون ان مركز ثقل الجاذبية ينحاز للشرق فهناك العديد من الحلفاء والأعضاء الجدد»، وكان مسلسل رد بعض المسؤولين الفرنسيين والالمان كالتالي: فقد قال يوشكا فيشر «وزير الخارجية الالماني» «الجواب الوحيد هو ان يهدئ رامسفيلد من روعه» وقال «فولكر رويهي مسؤول سابق في وزارة الدفاع الالمانية» «ليس من الصواب اللعب على وتر اوربا الشرقية في مواجهة اوربا الغربية» وقال مارتن اوبري «وزير العمل السابق في فرنسا» «ان تعليقات رامسفيلد تظهر مرة اخرى غطرسة الولايات المتحدة الامريكية»، ورغم الشد والجذب الاوربي الامريكي حول قضية الإطباق العسكري على العراق فإن حلف الناتو حتما وحسب تصريح احد المسؤولين فيه سينضم الى خندق حملة امريكا العسكرية بحجة مكافحة الارهاب وان الاختلاف في ضرب العراق هو مسألة اختلاف في توقيت الحرب وليس اختلافا في الجوهر فمائدة العراق شهية وتكاثر اللئام عليها لن يزيد إلا من عدد الايتام.
|