لقد استرعاني منذ مدة - واعيدت الكرة مرة ليست بالأخيرة - تلك النقاشات التي دارت منذ 11 شعبان 1423هـ، حينما نشرت جريدة الرياض خبرا في صفحتها الاخيرة من العدد 12536 وتضمن احتفاظ احد المواطنين بنسخة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الى المنذر بن ساوي حاكم البحرين.
وبما أنها ليست المرة الاولى التي يثار فيها مثل هذا الخبر، وكون المواطن قد زج باسم الاستاذ الدكتور قاسم السامرائي وقيام الدكتور نفسه بالرد على هذا الخبر ثم تعقيب سعادة الأستاذ فيصل المعمر وكيل الحرس الوطني للشؤون الثقافية والمشرف العام على مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وكوني احد المهتمين بمثل هذه الوثائق وغيرها من المنسوخات الرقيَّة «نسبة الى الرق» كمادة للكتابة فقد آثرت ان اشارك لأبين ان مثل هذه الرسائل يغلب على الكثير منها التزوير، وان كان غير مقصود في ذاته أي أن يكون ما يخرج إلينا بين الفينة والأخرى هو من منسوخات عصور متأخرة نسبياً، الا ان اصحابها يصرون لأسباب مختلفة على ان هذه الوثائق هي الرسائل الأصلية وليست مستنسخات منها. لهذا اقول مستعيناً بالله العلي العظيم الذي اسأله ان يوفقني الى الصواب.
كلنا يعرف ان الزور هو الكذب والباطل، بل ذهب كثير من علماء اللغة الى ابعد من ذلك فقالوا: ان التزوير هو التشبيه او التزويق والتحسين ومنها شهادة الباطل والزور الى ما هناك من معانٍ كثيرة تصب في هذا الجانب، ولا نجهل أيضاً الحكم الشرعي في عملية التزوير. كما ان هناك أسباباً لهذا التزوير وهذه الاسباب تتفاوت بتفاوت الغاية من التزوير، لهذا يمكن القول ان هناك أسباباً عامة للتزوير منها أسباب دينية مثل تزوير اليهود في بعض مطالبهم المعروضة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومنها أسباب معنوية من حيث الشهرة وما يدور في فلكها، ومنها أسباب مادية إما مادية نفسية أو مالية. وقبل الحديث عن التزوير في الرسائل النبوية لا بد من القول ان كتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه في محكم التنزيل اذ يقول جل وعلا: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا اليه لحافظون»
ومع ذلك الحفظ فقد تعرض القرآن لمحاولات كثيرة لتزويره الا ان حفظ الله له كان كافياً.
كما ان التزوير عرج الى الحديث الشريف بغية التشكيك فيه كما حدث للمصحف الشريف الا ان رجال العلم كانوا لمن أحدث في اقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بالمرصاد فخرجت لنا علوم ارتبطت مباشرة بالحديث مثل علم رجال الحديث والجرح والتعديل والنقد للمتن والسند وغير ذلك. لهذا نجد ان عملية التزوير في الحديث لقيت ما لقيته عملية التزوير في القرآن من كشف لها ورد.
اما الرسائل النبوية ولكون نصوصها مما وجد في المصادر التاريخية الاسلامية المبكرة فقد كان من اليسير اجراء عملية التزوير عليها ليس كنص وانما كمادة كتابة وهو ما سوف نتناوله فيما يلي:
ليس من شك في ان الرسائل النبوية رسائل صحيحة واقعة الثبوت، اما المادة التي كتبت عليها تلك الرسائل وهي ما نشاهده بين حين وآخر هو الذي نشكك فيه ونقول: لا بد من وضعه تحت مجهر النقد والفحص المادي.
ومما يؤسف له ان تلك الرسائل بدأت تخرج لنا في اكثر من نسخة مثل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الى هرقل عظيم الروم، حيث إنني اطلعت على نموذجين من تلك الرسالة وكل واحدة منها كتبت بشكل مختلف من حيث المادة المكتوبة عليها. اما النص فلا يكاد يختلف الا في مواضع قليلة جداً. ومرد ذلك الى المصدر الذي نقلت منه الرسالة او الى الناسخ والمزور لها. وما يقال عن هذه الرسالة من خروج نموذجين لها يقال أيضاً عن الرسالة التي بعثها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الى النجاشي ملك الحبشة، حيث اطلعت على نموذجين منها كل واحدة تعود الى عصر مختلف، فضلاً عن تلك الرسالة التي بعثها النبي الكريم الى كسرى ملك الفرس وتجمع المصادر العربية الاسلامية على ان تلك الرسالة قد مزقها كسرى فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بتمزيق ملكه فكان ذلك. وقد اطلعت على نموذجين من تلك الرسالة، واحدة سليمة والاخرى يظهر فيها اثر التمزيق في وسطها، وذلك بغرض التضليل ولكي تتوافق مع ما هو موجود في المصادر الاسلامية العربية من معلومات بشأن مصير هذه الرسالة وما فعل بها.
وللتأكد من صدق هذه الرسائل لا بد من اخضاعها الى فحصين متزامنين هما الفحص العلمي المادي من تحليل للرق والاحبار وغير ذلك. وفحصها من جهة نصها وطرق كتابته.
لهذا نقول في البداية لا بد من فحص الرسالة فحصاً مخبرياً، فإن كانت الرسالة مكتوبة على رق كما هو المعتاد، فقد يكون هذا الرق قديماً مسح ما عليه من نصوص وكتبت عليه نصوص اخرى. لهذا يجب أيضاً التأكد من قدم المداد الذي كتبت به الرسائل. لان الملاحظ بعد فحص الرسائل التي تعود للقرون الثلاثة الاولى من الهجرة أنها مما أعيد الكتابة عليه اكثر من مرة وهو ما يعرف عند العرب قديما بالطروس.
كما يجب ان يخضع نص الرسالة للفحص من حيث مطابقته لما هو موجود في المصادر القديمة، ثم التأكد من تاريخ كتابة الرسالة ومعرفة الشخصيات المسجلة في ثنايا الرسالة.
كما ان نوع الخط وطرق كتابته من الوسائل المساعدة للتعرف على قدم الرسالة من عدمه كما يجب ملاحظة نوع الختم والنصوص المسجلة عليه.
وبالاطلاع على انموذج واحد من الرسائل غير النبوية نجد انه بعد الفحص الاولي لما يعرف بالعهد النبوي الذي أعطي - كما يُزعم - الى رهبان دير طور سيناء والمؤرخ في السنة الثانية للهجرة نجد ما يلي:يلاحظ على هذا العهد ان فيه نص اسقاط الجزية، والجزية كما هو معلوم من السنة لم تفرض أصلا الا بعد غزوة تبوك.
كما ان العهد مؤرخ بالسنة الثانية للهجرة، والمعلوم ان التاريخ الهجري كان قد اقر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة 17 أو 18هـ اضافة الى ان ذلك العهد كان مختوماً بختم النبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف تاريخياً ان اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم ختما لرسائله ما كان الا بعد عام الوفود في السنة السادسة او اوائل السابعة للهجرة.
وما يقال عن هذا العهد يمكن ان يطبق على الرسائل الاخرى من حيث ورود التاريخ والختم فضلا عن تلك الاخطاء النحوية التي لا يتوقعها المرء في الرسائل النبوية لأنها من املاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم.
وسوف نعرض هنا لأنموذجين لرسائل النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل وللنجاشي وكل واحدة من هذه الرسائل جاءت في نسختين مختلفتين.
|