يختلف الكثير حول العمل الفني وإبداع الفنان وازدواجية الفهم في هل هذا الفعل يندرج في مجال الصنعة أو الصناعة أم أنه ضرباً من إيحاءات خيالية وتأملات فارغة؟.. فرغم ما تطرق له الكثير من فلاسفة الفن والفكر إلا أن البعض منهم يرى أن الإنسان لا يمكن أن يبتكر إلا حين يعمل لهذا، فالفن في نظرهم صناعة تعتمد على الدراسة والتخطيط والتنفيذ وهذا يخالف المقولة إن الفنان ينفذ ما يتلقاه من توجيه ما يسمى بالإلهام ويتعامل مع المادة التي يشكل منها عمله الفني أي كانت تلك المادة بتسخيرها وترويضها تحت تأثير مدركاته الفكرية بكل ابعادها وفلسفاتها الجماليه، كما يشير أولئك الفلاسفة إلى أن الفنان لا يعتمد على أفكار سابقة محددة وإنما يستجلب تلك الأفكار في الوقت الذي يتمكن فيه من إنتاج عمله وينغمس فيه أو ما يمكن تفسيره أن تلك الأفكار لا تصبح واضحة ومكشوفة إلا بعد اكتمال عناصرها وتكوينها النهائي معلنا الدهشة بعد ذلك أمام منجزه التشكيلي مع أن الكثير من شواهد أعمال الفنانين عبر مراحل كثير من تاريخ الفن تكشف ما يتم من إعداد مسبق ودراسات أولوية لأي عمل فني إلا أن ما يمكن الاتفاق عليه ما يتم في نهاية المطاف أو ما يستخلصه الفنان بعد مراحل التنفيذ أما الجانب الآخر الذي يراه البعض فهو أن الفنان أو المبدع في حاجة للمعرفة المستفيضة بنوع وماهية المادة التي يتعامل بها ومعها لتنفيذ عمله الفني ومنها فمن معرفة طبيعتها يستعد الفنان لمقاومة تمردها وعصيانها عند التنفيذ وعدم القناعة بما يمكن أن توحي به من السهولة في بادئ الأمر مع أن السهولة في غالب الأحيان أكثر سوءاً ونتائجها في الغالب سلبية في الشكل والمضمون وهنا يبرز جانب الصناعة في الفن بين التعامل مع الفن بمفهوم الابتكار والتجديد، فالفكرة تسبق الصنعة ويحددها الصانع قبل التنفيذ بينما الفكرة عند الفنان تأتي في غالب الأحيان عند التنفيذ إلا أنهما يلتقيان في مراحل التعرض للتغيير والتبديل والخروج في النهاية بشكل مختلف عن البداية مع أنها عند الفنان أكثر مرونة وأكثر حرية فقد يتغير المضمون الأساسي تماماً نتيجة تفاعل الفنان مع أدواته وخامته بينما لا يمكن للصانع أن ينتهي بغير ما خطط له.
وهنا يمكن لنا أن نكون أكثر قرباً من معنى الصنعة في الفن بما يشاهد من أعمال يمكن وصف أصحابها بالصناع في إنجاز العمل الفني وهم من يتعامل بأطر ومقاييس وأفكار محددة ينقلون بها الواقع بشكل هندسي إلى اللوحة ما يعني أن الفكرة وما يجب أن تنتهي إليه قد وضع لها قالب مسبق التصنيع وما على المنفذ إلا تطبيق تلك الشروط وهذا مخالف تماماً لمواصفات الفنان المبدع المبتكر و المتجدد والباحث عن الحقيقة دون استسلام لإلهام معلب يؤدي إلى إبداع ارتجالي خاوي الوفاض دون سعي بحث عن سبل احترام عمله والرضوخ لرغبات السوق وإحالة عمله إلى بضاعة فكلما ارتقى الفنان بذاته وبفكره وفلسفته الفنية دون تمرد على المحيط أو الخروج عن قيم مجتمعه كان أكثر احتراماً عند الآخرين وهذا يعيدنا أيضاً لقضية التبعية والتقليد الأعمى لكل ما هو جديد في عالم الفن توقعا من الكثير أن ما يمارس في واقع غربي يمكن أن يتقبله المتلقي في محيطنا الخاص دون النظر للاختلافات العديدة ومنها تنوع الثقافات ومرجعيتها.
المهم أن هناك فرقاً كبيراً بين الفن كإبداع والفن كصانعة ومن المؤسف أن غالبية الأعمال في المعارض لا تخلو من صفة الصنعة نتيجة القصور في فهم العمل الفني ولتوقع منفذيها سهولة التعامل مع أدواتهم المادية أو الحسية فأنتجوا أعمالاً ساذجة لا يمكن إدراجها ضمن التجارب الناضجة أو الموحية بولادة جيل جديد يمكن الاعتماد عليه لتطوير الإبداع.
|